الرئيسية مجلة "يڨول" تحقيق وروبورتاج

بورتريه

فائزة عدلي.. عاصمية تحترف صناعة الجلد بتمنراست


فايزة عدلي في ورشتها

01 ماي 2014 | 14:34:25
shadow


الكاتب :


 

"لتنجح في صناعة الجلد يجب أن تحبه أولا وتحب الطبيعة والسكن البدوي الذي يحتويه، يجب أن تكون صبورا وتؤمن بقدرتك على الابتكار والتجديد لأنها في النهاية موهبة". بهذه العبارة تلخص فائزة عدلي مغامرتها مع الجلد التي بدأت في عالم الصحافة والشعر وانتقلت إلى ختم يحمل كلمة "أفضلي" مصنوع من مادة "لاميونط" توقع به منتوجاتها الجلدية للدلالة على معنى واحد "هذا من فضل ربي الذي ألهمني".

 

تبدو فائزة عدلي في ملامحها امرأة هادئة وقوية ونظرتها ثاقبة. أذكر أن أول ما أثارني في لقائي الأول بها بالعاصمة، حذاؤها الجلدي المميز، وككل النساء اللواتي ينبهرن بما تملكه الأخريات سألتها عن المكان الذي اشترته منه، والحقيقة أن الحذاء صنع في ورشتها الصغيرة بتمنراست. أغرقت فائزة بعد لحظات فقط من تعارفنا ببحر من الأسئلة كطفلة منفعلة تدخل عالما جديدا لأول مرة، وكانت المرأة التي وجدت في ملامحي شبها لابنتها تحدثني بهدوء مبالغ فيه يعكس روح الشاعرة والصحفية التي تحولت إلى فنانة في عالم الجلد.

من مكتب "راديو نت" إلى عالم الجلد

في مكتب "راديو نت"، كان الملل يتسلل لقلب فائزة من مواضيع الأمراض النسائية وسرطان الثدي، ومحاورة الأطباء. ملل لم تجد لمواجهته غير كنزتها الجلدية لتقوم بفتحها وتقطيعها إلى شرائط كثيرة في يوم مجنون، حرك فيها روح الشاعرة التي تفكك الجمل وتعيد تركيبها، وهي لا تعرف ما تفعل بها، وإذا ما كان سينتج عنها نص في النهاية أو لا. بنفس الهوس فككت كنزتها إلى قطع، كل كتف وحده، الظهر والجيوب أيضا فتحتها ووضعتها جانبا، ثم أخذت تقطعها إلى شرائط صغيرة، ولم تستوعب ما ارتكبته في حق كنزتها إلا بدخول زميلتها وصرختها من صدمة الموقف. ولأن الكنزة كانت قد أتلفت، بدأت فائزة بضفر شرائط وخيوط الجلد، محاولة خلق أي تشكيل بها. واستمرت في ربط الخيوط ببعضها البعض بكل فن، إلى أن بدأ الشكل يظهر. وبعد الكثير من العقد تكون لديها "قرط" كما تتكون القصيدة من الأبيات. لبست فائزة بسعادة كبيرة أول منتوج من الجلد لها كما تلبس الشاعرة أولى قصائدها. تقول فائزة "لم أندم على ما فعلته بكنزتي، المهم أنني وجدت طريقة مسلية لمواجهة الملل الذي كنت أشعر به".

بقايا... بلمسة جديدة

وهكذا اتخذت فائزة من أجزاء كنزتها مادة أولية، تشكل منها الأساور والأقراط والسلاسل الجلدية لتتزين بها. وأخذت تستثمر في بقايا قطعها الجلدية، لتصنع حافظة لهاتفها النقال، وحزاما لبدلتها الجديدة. وتقول فائزة عن أول ما أخاطته: "قمت بإخاطة حافظة هاتفي مرتين، وكنت في كل مرة أفتحها وأعيد إخاطتها، وبعد عدة محاولات أعجبتني أخيرا وقررت الإحتفاظ بها".

لم تكن فائزة التي لا تبحث في الجلد إلا عن فرحة صغيرة، تعرف أن ما تلبسه من منتوجاتها، سيبدأ عليه طلب الأصدقاء والسياح، وسيتحول إلى معرض مغر. وأول ما وقع عليه الطلب، حزامها الذي انبهرت به صديقتها القادمة من مرسيليا وطلبت واحدا مثله. هنا قررت شراء لوازم الخياطة الخاصة وبعض المتطلبات الصغيرة التي تلزمها في صناعة طلبية أول زبائنها.

ولأن الأشياء التي نضع فيها بعضا من إحساسنا تخرج جميلة وتصلح للآخر، بدأ الأصدقاء والزملاء يحبون ما تصنعه فائزة ويطلبون منها أن تصنع لهم مثلها. وبدأت تجمع بقايا الجلد وتعيد تلوينها وتلميعها، وفي كل مرة تجرب شيئا مختلفا. تقول فائزة: "أصبح الأصدقاء يحضرون بعض أغراضهم الجلدية القديمة، لأصنع لهم منها حقائب وغيرها".

 

في تمنراست... أبجديات وإبداع

كنت أرى فائزة ناجحة في صناعة الجلد بالعاصمة حتى الآن، ولم أفهم بعد ضرورة مغامرتها في أعماق الصحراء، بينما كانت ترى هي في وقت سابق أنها وجدت ما كانت تبحث عنه خارج مكتب راديو نت في تمنراست، لا سيما بعد الزيارة التي قامت بها للمدينة ضمن رحلة توعوية نظمتها جمعية في إطار تعليم الشباب مهارات استغلال الفضلات. وبعد مدة قصيرة من الزيارة، وبالتحديد في أكتوبر سنة 2011، قررت فائزة احتراف صناعة الجلد في مدينته. تبتسم فائزة وتقول: "وضعت القلم وتركت "راديو نت" واتجهت إلى تمنراست".

بقلب كبير وذراعين مفتوحتين على الآخر استقبلت تمنراست ابنة العاصمة كما تستقبل المدن الجزائرية أبناءها أينما تنقلوا. ولأن المرأة "الترڤية" ولدت للعطاء، حصلت فائزة التي أخذت بعضا من ملامحهم، على الدعم منذ البداية، حيث تولت "الترڤية" فاطمة تعليمها أبجديات صناعة الجلد بطريقة يدوية وبدائية للحصول على المادة الأولية لتشكيلاتها. وذلك باستخدام نبتة اسمها "تهجرت"، التي تجفف ثم تطحن بمهراس من الحطب يسمى "تينيدي"، ثم يتم وضع الجلد المنزوع بعد الذبح مباشرة بداخلها. وتروي فائزة تفاصيل العمل موضحة: "نترك الجلد لمدة من ثلاثة إلى أربعة أيام حتى يلين، ثم نقوم بتجعيده ودلكه بالحجر على الأرض، ثم يترك ليجف مع دهنه بشحم الجمل حتى يصبح لينا، ثم يعرض لأشعة الشمس التي تتميز بلطافتها وهدوئها بحيث تجففه ولا تحرقه".

بصبر كبير تمارس فائزة الحرفة التي أحبتها واكتشفتها في سن متأخرة، بما تتطلبه من طاقة عضلية وعمل يدوي متعب. وبالرغم من هذا تؤكد فائزة: "أفضل صناعة الجلد بيدي، وعندما أكون مضطرة ولدي طلبية جديدة، أقوم بشراء قطع الجلد جاهزة". ولم تتوقف فائزة عند تعلم هذه الحرفة وكفى، وإنما تغلغلت فيها لاكتشاف أشياء أخرى، استطاعت بعدها التوصل إلى نبتة تقضي على رائحة الجلد وتزيلها بصفة نهائية، لتدخل باكتشافها دائرة المنافسة، بعدما تحكمت في أبجديات الحرفة، وميزت بين أنواع الجلود التي تقول عنها: "أستخدم جلد الكباش والماعز خاصة لأنه جلد جيد، لكن جلد الجمل غير مناسب للباس لأنه جلد رهيف ولا يصلح للخياطة". ومن أفضل الجلود جلد "لروي"، وهو نوع من الغزلان يتواجد في الجبال، يصطاد في الليل في أعماق الصحراء، أما جلد البقر فهو خشين تصنع به النعال". وتؤكد فائزة "ناس الصحراء كرماء، ساعدوني في حرفتي وكنت أحصل على الجلود مجانا ومنها ثلاثة جلود للروي".

"التوارڤ" قلوب بحجم الصحراء

ما كان من الممكن للعاصمية الوحيدة أن تتطفل على عالم صناعة الجلد الذي تحتكره نساء "التوارڤ" لولا شساعة قلوبهم وكرمهم الذي يضاهي حجم الصحراء. منذ البداية حدثتني فائزة كيف ساعدها أهل المدينة على دخول عالمهم، عندما أرشدوها إلى غرفة الحرف والمهن التابعة لوزارة الثقافة، من أجل اجتياز امتحان هناك، وفعلا اجتازت فائزة الامتحان في أول أسبوع من شهر رمضان. لم يكن صعبا عليها لأنه كان امتحانا عفويا تدور أسئلته حول كيفية تعلم الحرفة، وهو امتحان يجتازه الحرفيون في الطلاء، الحلاقة، الفضة، الملابس التقليدية وغيرها. وبعد أسبوع فقط تحصلت فائزة على شهادة تأهيل في صناعة الجلود الفنية. وهي تشمل الأحذية، الحقائب، الأكسسوارات ومواد الزينة. وتحصلت على بطاقة حرفية من تمنراست تؤهلها لبداية العمل بصفة رسمية. وتقول فائزة: "التوارڤ لا يعلمونك أسرار الحرفة ولكنهم طيبون يساعدونك على التأقلم مع المنطقة، يسهلون لك الحياة ويجلبون لك الطلبيات ويفرحون كثيرا بامرأة تصنع الجلد".

ورشة صغيرة في سورو معلمين

وسط "التوارڤ" قامت فائزة بتأجير بناء صحراوي تقليدي سقفه من النخيل، خارج المنطقة الولائية، وبالضبط في منطقة اسمها "سورو معلمين". هناك اكتشفت طعم الحياة البدوية، وفتحت ورشتها الصغيرة، وتعلمت التحكم في الألوان الأساسية. ومن الألوان المشهورة في عالم الجلد "الأجيڤو" وهو اللون الأزرق الداكن. لون "التوارڤ" المفضل يستخرج من حجرة تستخدم أيضا للحماية من أشعة الشمس. ومن الألوان أيضا "روج ماجينثا" وهو لون أحمر يميل إلى اللون الوردي، و"جون كوبالث" وهو أصفر فاتح. ومن الألوان الأساسية الثلاثة تخلق ألوانا أخرى. وأكثر ما تحبه فائزة في لون الجلد، أنه كلما أصبح قديما كلما أصبح أجمل.

 

 

لم تواجه فائزة مشكلة في بيع منتوجاتها، سواء من حيث الطلب أو فيما يخص الأسعار، خاصة مع "التوارڤ" الذين يقدرون قيمة الجلد. ومن المنتوجات التي يطلبها عادة "التوارڤ" تذكر فائزة حمالة المفاتيح ومحفظة النقود، النعال والحقائب أيضا، بينما يطلب السياح الأكسسوارات بمختلف ، خاصة سنة 2012 التي عرفت توافدا كبيرا من السياح إلى المنطقة. وتذكر فائزة "صنعت أيضا أحزمة للكلاب والقطط بأشكال مختلفة لسائحة جاءت من النرويج".

وردة القطن وأشياء أخرى

وشيئا فشيئا أخذت فائزة تصنع تميزها، وتمزج بين التقليدية والأصالة. وبعدما نجحت في صناعة جلد بلا رائحة، نجحت في مزج العديد من الأشياء مع الجلد لصناعة تشكيلات متميزة. وأبرزها وردة القطن، وهي أشجار مثمرة جدا في تمنراست، حيث عملت فائزة التي لا تترك شيئا يمر دون أن تستفيد منه، حيث توظفه في صناعة تشكيلاتها الجلدية. فتقوم في شهر ماي وجوان بجمع القطن المنتشر على الطرقات، لتزين به أكسسوارات الجلد بطريقة فنية وذكية. تقول فائزة: "أول ما انبهرت به في تمنراست أشجار القطن". ولم يتوقف إبداع فائزة هنا، بل استطاعت أن تستغل خصائص البيئة التي تعيش فيها، ولأن سكان تمنراست يستهلكون كثيرا البيسطاش، ابتكرت فائزة طريقة لاستغلال قشوره في صناعة لوحات زينة كديكور للبيوت بعد تشكيلها وتلوينها، وتقول: "كنت أقوم بجمع القشور من الأصدقاء ثم أقدمه لهم كهدايا لديكور البيت".

كل شيء وجدت له فائزة توظيفا في عملها، وكيف تمزجه مع الجلد، واستفادت من أشياء كثيرة قد تبدو غير مهمة. كنت أقلب بعض منتوجاتها بين يدي وأسألها كيف صنعت هذا؟ وقد يبدو لي شيئا غريبا فأسأل وما هذا؟ وهناك اكتشفت أن المرأة التي تجلس إلى جانبي قادرة على توظيف أي شيء مع الجلد. استطاعت فائزة إيجاد مواد أولية لتجرب أشياء جديدة وتبتكر وتطور عملها. وتقول معلقة أمام دهشتي: "في تمنراست يلقبونني بفنانة الجلد، الناس هناك يفهمون جنون الفنان، لأنها مدينة الحرفيين".

أحلام مشروعة

بعد كل ما حققته فائزة في عالم الجلد، جاءني سؤال مباغت لأعرف "ما الذي تبقى من حلمها هنا؟". فعلا في عالم الجلد مازال لفائزة عدلي أحلام مشروعة. مازالت تحلم اليوم بصنع خيمة من الجلد. حلم يتطلب منها أكثر من ثلاثمائة قطعة جلد، وقد تصل تكلفتها إلى أربعين مليون سنتيم، وثلاثة أشهر كاملة من العمل المتواصل، تتم فيها إخاطة الخيمة باليد. وعندما تنتهي من إنجازها، تسجل عليها ختمها "AFDALI" الذي صنعه لها رب العائلة التي ساعدتها كثيرا من مادة "لاميونط"، ثم تسكن الخيمة التي صنعتها، ويكتمل بذلك معنى الكلمة التي اختارتها. وتقول فائزة: "اخترت هذه الكلمة لأنها تشمل اسمها العائلي "عدلي" وتشير إلى عبارة "هذا من فضل ربي" لأنه من ألهمني هذه الموهبة وأنا من عشقت منذ الصغر إعادة تشكيل الأشياء ولبس الأحذية والحقائب الجلدية".

إعداد: سارة جقريففايزة عدلي في ورشتها

 



مواضيع ذات صلة

التعليقات

  1. عرباوي عبدالقادر   26 أوت 2016

    السلام عليكم. مقاله رائعه .. رغم انني قرئتها متأخر اختنا فائزه فنانة وانسانة تستحق كل التقديروالاحترام تمنراست .دائما وابدا تعتبد مدينتها واهلها ... مزيد من النجاح .. وشكرا للكاتبه . ساره ...

  2. mohand oukaci   04 ماي 2014

    De la presse à la tannerie, un parcours hors du ccommun, bien original. Dans le cuir ou sur papier la créativité s'étale et dévoile une âme

أترك تعليقا

شكرا لك تمت إضافة تعليقك بنجاح .
تعليق