الرئيسية مجلة "يڨول" تحقيق وروبورتاج

عودة الظاهرة بقوة بعد فترة هدنة

" الحراڤة" يعودون... رغم ردع التشريع وخطط البوليس


صورة 'نيوبرس"

15 سبتمبر 2014 | 18:41
shadow

في ساعات الليل المتأخرة، تتناقض النوايا بين جبهتين، الأولى تحلم بالمغادرة سرا بمبررات تطال التهميش وقلة فرص الحياة، تتحين الفرص وتبحث أي وسيلة للوصول إلى حلم الضفة الأخرى، أما الثانية فتبحث خطط قمع هذا الحلم "غير الشرعي"، وتحاول تطوير أسلوبها في وقف تدفق تمقته أوروبا، هي حالة لوجهين يمثلان عملة واحدة، فشل كثيرون في تفسير أسباب النفور بينهما.


الكاتب : سهيلة. ب


وفي عمق الدول المغاربية تنامت فكرة هجرة بمعنى الفرار أكثر منها فكرة هجرة بما تعنيه الكلمة تاريخيا وحضاريا، ولم يعد بالإمكان في دولة مغاربية إطلاق أحكام بـ"العمل المعزول" على حملات هجرة سرية قوامها المئات والآلاف، بشكل أثار الجدل بوضوح حول فشل كل أشكال المعالجة التي اقترحتها البلدان التي تصدر المهاجرين، والبلدان التي تقول إنها متضررة من الظاهرة. وأثبت الجانب الردعي للحد من الظاهرة عدم جدواه.

انتهاء هدنة دامت سنة

وعكس ما كان متوقعا، زادت أعداد المهاجرين في السنتين الماضيتين وفي الجزائر خصوصا في الأيام القليلة الماضية، بالحدة نفسها أو أكثر، مع التشديد في الترسانة القانونية التي تردع "الحراقة" في دولهم، ومع مضاعفة عدد مراكز حشدهم التي تشبه السجون في البلدان التي تستقبلهم، عاد التفكير من جديد إلى سحب القيود القانونية ضد أصحاب محاولات الهجرة السرية في الجزائر مثلا. أمر يحيل إلى إثبات حالة التردد وعدم تفهم الظاهرة بأبعادها لدى أصحاب القرار، ما جعل المعالجات تترنح بين "الحل البوليسي" و"الردع القانوني" دون أن تمتد إلى المعالجة الاجتماعية.

وتعد ظاهرة الهجرة السرية المتعارف على تسميتها في الدارجة المغاربية بـ"الهدة" أو "الحرڤة"، من "الطابوهات" التي كانت تمنع الشباب من الحديث عنها في الأماكن العمومية وأمام الملأ، إذ بات الأمر عاديا لدى كل من ضاقت آفاقهم المستقبلية وخنقهم البؤس والعوز، وصاروا يلقون بأنفسهم إلى التهلكة في ثنايا البحار بحثا عن موطن يجدون فيه ما يعتقدون أنه الكرامة المأمولة التي افتقدوها في مجتمعهم، سياق عام توسع من مجرد أحلام إلى واقع معاش، وفاض الطوق لتتحول ظاهرة الهجرة إلى حضور ثقافي وفني في أغاني الشباب وأفلام سينمائية، وآخر المطاف توسع الرقعة لتصبح "هاجسا إقليميا".

حين هدأت عواصف الهجرة السرية لبضعة أشهر، كثيرون اعتقدوا بنهاية وشيكة لظاهرة وصفوها بـ"الموسمية"، ففاجأ "هواة بحر" في عنابة بأقصى الشرق عائلاتهم وأهل مدينتهم برحلة مجنونة في عرض المتوسط، انتهت بهم بين أيدي حرس السواحل، الرحلة دوت عاليا في آذان مسؤولين في الجزائر بعد "هدنة" طويلة استغرقت قرابة عام لم تنغص فيها الصحافة على هدوء المسؤولين بأخبار "رحلات الموت".

تراشق للمسؤولية بين ضفتي المتوسط

لقد أعادت الحادثة طرح طريقة التعاطي مع ملف الهجرة غير الشرعية بين مقاربة أمنية تعتمدها الحكومات في ضفتي المتوسط، وجمعيات حقوقية تنتقد المعاملة غير الإنسانية لعابري البحر سرا وتدعو البلدان المعنية بالظاهرة إلى معالجتها من زاوية إنسانية، تأخذ في الحسبان الأوضاع التي تشجع على ركوب قوارب "الحرڤة". ومن المفارقات أن الجزائر والمغرب وتونس، باتت توظف مقاربة معينة لحل الأزمة، كانت رفضت بشدة عندما حاولت دول أوروبية فرضها على بلدان المغرب العربي. فخلال اجتماع جرى بوهران العام 2005 في إطار الفضاء الأورو متوسطي 5 5، اقترحت فرنسا وإسبانيا على موريتانيا وتونس إقامة مراكز عبور للأشخاص الذين يلقي حرس الحدود البرية والبحرية القبض عليهم بتهمة الهجرة غير الشرعية، ويتم فيها احتجازهم مؤقتا لفرز المؤهلين للإقامة في أوروبا لدواع سياسية وإنسانية، على أن تتولى تونس وموريتانيا طرد المهاجرين الذين تعتقد أوروبا أن شرط الهجرة غير متوفر فيهم.

واعتبرت الجزائر حينها أن فرنسا وإسبانيا تريدان من المغرب العربي أن يؤدي دور "الدركي المتقدم" في منطقة المتوسط، واحتجت بشدة على ما وصفته "حلا بوليسيا" للهجرة السرية، وحرضت الدول المغاربية على رفض المقترح الأوروبي. وبعد خمس سنوات من لقاء وهران، أدخلت الحكومة الجزائرية تعديلات على قانون العقوبات تتعلق بـ"الحراڤة"، تتضمن مقاربة أمنية ردعية لمواجهة الظاهرة حيث تهدد المهاجر بعقوبة السجن.

وقد استنكر المدافعون عن حقوق الإنسان الغطاء القانوني الذي تختفي تحته معاملة المهاجرين بعنف أثناء اعتراض طريقهم في عرض السواحل. إذ وبالرغم من شراسة المقاربة "الأمنية" المدعومة بترسانة قانونية على الأقل في الجزائر، فإن سيول الهجرة السرية مستمرة في التدفق نحو الشمال، وإن مافياتها مستمرة أيضا في ابتداع الطرق الكفيلة بتخطي كل الصعاب والتحولات في التعاطي الحكومي سواء في الجنوب أو الشمال.

رحلة موت بعشرة ملايين سنتيم

يقول قلعي وهاب، شاب في الرابعة والعشرين من عمره، أوقف رفقة عشرات الشبان في شاطئ "المرسى" شرقي ولاية سكيكدة، إن "الرحلة الفاشلة كلفتني عشرة ملايين سنتيم". ويذكر: "جرى إيقافنا متلبسين قبل المغادرة.. هناك من أبلغ مصالح الأمن برحلتنا وغرمتني العدالة بعدها بمبلغ رمزي"، ويعتقد أن شبكات الهجرة السرية نوعت من عروضها، فتنوعت أسعار الرحلات إلى الضفة الأخرى، فأدخل "بعض البحارة" تجارة "تهريب البشر" إلى القاموس اللغوي، حيث يعمدون إلى حمل المرشحين للهجرة السرية على متن بواخر الصيد التي يشتغلون فيها، ويحملون الزورق الذي يشتريه هؤلاء الحراڤة، يخرجونهم من المياه الإقليمية الجزائرية ويقطعون بهم المياه الدولية، ويوهمون حراس السواحل أن الأشخاص الذين يوجدون على متن الباخرة صيادون، ما يقلص من مسافة "المغامرة" لبعض ميسوري الحال وعلى مسافة قصيرة، تنتهي في الغالب بالنجاح.

إلا أن الهجرة السرية في دول الضفة الجنوبية من البحر الأبيض المتوسط لا تنحصر فقط في قوارب الموت، وإنما تتوزع على بدائل أخرى من قبيل عقود العمل المزورة والزيجات البيضاء والاختباء في السيارات وحافلات الركاب وشاحنات البضائع، فضلا عن السفر القانوني الذي يكون من أجل السياحة أو العمل أو المشاركة الرياضية، فيستحيل هجرة سرية كما حدث مع العديد من الأندية الرياضية، وفي حكاية "حراڤ" جزائري من أرزيو قرب وهران كثير من العبر، لما خاض مغامرة بحرية في اتجاه إسبانيا عبر ناقلة الغاز الجزائرية "رورد العدرة"، انطلاقا من ميناء أرزيو الصناعي، حيث تمكن من التسلل إلى الباخرة والاختفاء في أحد أجنحتها قبل أن يُكتشف أمره وهو على مشارف الساحل الإسباني.

ويذكر العديد من الأشخاص أن بعض شبكات الهجرة السرية صارت تدفع الشباب نحو الموت، من خلال بيعهم محركات غير صالحة للإبحار، ويمارس "تجار الموت" هذه الطريقة مع الشباب القادم من مناطق بعيدة إلى الشواطئ التي تحولت إلى نقاط انطلاق نحو إسبانيا أو إيطاليا، والذين لا يعرفون خبايا البحر من سكان المناطق الداخلية، وأخطرت مصالح الأمن والدوائر المختصة في البلدان المغاربية بمئات الحالات والطرق المبتكرة في الاحتيال على شباب "بائس وفاقد للأمل".

ومن هذا المنطلق البسيط في قاموس الهجرة السرية، يمكن تفسير الطفرة المسجلة في أعداد المهاجرين منذ مطلع السنة الجارية، حيث فاقت أعداد الموقوفين فقط قرابة الـ500 مهاجر سري. والمعروف أن الذين ينجحون في إتمام الرحلات أضعاف عدد الموقوفين من قبل حرس السواحل الجزائرية والمغربية والتونسية أو الأوروبية. وفي القاموس أيضا الأعياد الوطنية وأيام الاحتفالات التي يختارها الحراڤة "للفرار" في هدوء، كما كانت التجربة مع الانتخابات الرئاسية الأخيرة والأعياد الدينية.



مواضيع ذات صلة

التعليقات

أترك تعليقا

شكرا لك تمت إضافة تعليقك بنجاح .
تعليق