الرئيسية ثقافة أفكار

ﺃلوان زنجية

بقلم سعيد خطيبي


14 ماي 2014 | 16:24:53
shadow

إيمي سيزار، أبو الأدب الزنجي، لم يجد سبيلاً لإقناع مواطنه فانون بتبنيّ قناعاته، وسيدار سنغور ساهم في تعميق الهوّة بينه وبين كتّاب آخرين من بني جلدته.


الكاتب : سعيد خطيبي


وعلى الرغم من حماسة مؤسِّسي الأدب الزنجي في الدفاع عن خياراتهم، والمجاهرة عالياً بأحقّية مشروعهم، والتأكيد أكثر من مرة على أصالة تيّارهم، فقد وجد فرانز فانون سبباً لإعلان قطيعة معهم، وإثارة تساؤلات حول جوهر التزامهم بخط المطالبة بالاستقلال القومي، ومسألة تحرير الإنسان الزنجي، تساؤلات ما تزال مستمرّة حتى اليوم.

صاحب "بشرة سوداء، أقنعة بيضاء" رفض التقوقُع داخل حركة رأى فيها ضبابية وليونة خطاب في التعامل مع المحتل: الرجل الأبيض، الغربي. عاب على منظِّريها سوء التقدير، محلِّية الطرح، وتخاذلاً في الموقف الراديكالي تجاه المستعمر، وعارض ما ﺬهب إليه جان بول سارتر في تعريفه للحركة نفسها باعتبارها فقط نظيراً لمفهوم الإنسان الزنجي، مفضِّلاً أن ينأى بنفسه، ويواصل عمله الأكاديمي في تحليل ومناهضة الحركة الاستعمارية عمليّاً ونفسانيّاً، وتحديد معيقات تطوّر السود، داخلياً وخارجياً.

سياقات نشأة الحركة الزنجية، في فترة ما بين الحربين العالميتين، لم تكن لتخلو من تداخلات مع الشأن السياسي، وربط مباشر بين مفهومي الكتابة والالتزام، مع عدم وضوح في التصوُّر العام حول العلاقة مع المستعمر الأوروبي. هل تقوم على المواجهة المباشرة أم على الحوار الثنائي؟ إيمي سيزار(1913 - 2008)، الشاعر المارتينيكي (الذي انخرط لاحقاً في السياسة)، كان له السبق في تبنّي مصطلح "الزنجية" تعبيّراً عن حالة الكتابة الأدبية لذوي البشرة السوداء، من المستعمرات الإفريقية إلى مستعمرات أمريكا الوسطى. مصطلح استخدمه، لأول مرة، في مجلة "الطالب الأسود" (1935) بباريس، ثم في مجموعته الشعرية الأولى والأهم "مذكرات العودة إلى البلد الأم" (1939)، واقتبسه لاحقاً رفيق دربه النضالي الشاعر والرئيس السنغالي ليوبول سيدار سنغور (1906 – 2001)، في مجموعته الشعرية الأولى أيضاً "أغاني الظل" (1945) مصطلح كان يحمل معنى الدفاع عن الهويّة الزنجية وثقافة السود، ومواجهة مساعي "الفَرْنَسة" والتغريب التي حاول المستعمر فرضها، بمحو اللغات المحلية والتراث الإفريقي الشفوي. بالتالي، فقد حَدَّدت الحركة، ومن البداية، خطوطها العريضة بالاشتغال والتركيز على الشق الثقافي، والبعد الهوياتي ولملمة التراث الشفهي والمكتوب للمجموعات العرقية السوداء المختلفة، مع تجنُّب الاحتكاك المباشر مع الإدارة الاستعمارية، أو المطالبة، بصيغة واضحة، بالاستقلال وتحرير القارة السمراء وجزر الكاريبي من هيمنة الاحتلال.

وسرعان ما التفّ كتّاب سود، من دول مختلفة، وحساسيات متعددة، حول تيار سيزار وسنغور، خصوصاً بعد إطلاق مجلة "PRESENCE AFRICAINE حضور

إفريقي" (1947)، التي أسَّسَها الكاتب السينغالي أليون ديوب" (1910 – 1980) وكانت تُطبَع، في الوقت نفسه، في باريس وداكار، واستقطبت أعمدتها وصفحاتها أهمّ الأسماء من أنتيليجانسيا وكتاب مرحلتي الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، على غرار المؤرخ الشيخ أنتا ديوب (صاحب "حضارة وبربرية" - 1981)، الشاعر الغوياني ليون غونتران داما (صاحب "قصائد زنجية على إيقاعات إفريقية" (1948)، الناقد المارتينيكي إدوارد غليسان، الإثنولوجي المالي أحمدو أمباتي با، وغيرهم.

وحظيت الحركة نفسها بدعم من مثقفين فرنسيين معروفين: آندري جيد، آلبير كامو، وجان بول سارتر مثلاً، وهو دعم لم يقدّم لها ضمانات، بقدر ما أثار حولها حساسيات جديدة، فبين "راديكالية" فرانز فانون في تحليل ونقد الفكر الاستعماري وتركيز رموز الزنجية على حصر النقاش في الشقين الثقافي والهوياتي برز الاختلاف بينهما، ففانون عَبَّرَ في البداية عن استحسانه للمبادرة، لكنه سرعان ما تراجع، منتقداً إياها ضمنيّاً، ومنسحباً أكثر فأكثر نحو خدمة القضية الجزائرية، التي تبنّاها وانطلق منها في التنظير لقضايا التحرُّر، وﺬهب بعيداً في تحليله للعلاقة أسود - أبيض حين طرح مصطلح "الزنوجوفوبيا"، تعبيراً عن عنصرية بعض الزنوج تجاه نظرائهم من زنوج آخرين، وانتقد بعض المثقفين الفرنسيين بحدّة بسبب سطحية تعاملهم مع قضية السود، حيث كتب مرة في نقد سارتر: "الخطاب السارتري يحطم حماسة الزنوج"، وﺬلك رغم العلاقة الجيدة التي كانت تربطه بصاحب "الذباب"، والذي كان آخر كاتب يقرأ له وهو على فراش المرض، حيث التقاه مرة واحدة عام 1960 في روما، وتذكر مصادر تاريخية أن الرجلين قضيا ثلاثة أيام كاملة في النقاش والتبادل الحر، "ثلاثة أيام كاملة شرح فيها فانون مواقفه، واستمع إليه سارتر باهتمام"، كما ﺬكرت سيمون دوبوفوار.

ففي تحليله للعلاقة مُستعمِر- مستعمَر، يشير فانون إلى ضرورة أن يسترد المستعمر إرثه التاريخي الحقيقي، وأن لا يكتفي فقط بالإحاطة بقيم معينة، مثل العائلة والتاريخ والدين، التي تحوَّلت، بعد وصول الاستعمار، إلى ما يشبه الفلكلور.

اليوم، بعد أكثر من نصف قرن على تبلور فكرة الزنجية، وترسُّخها في الذهنيات وفي كتب التاريخ، يبدو من الصعب وضع تقييم موضوعي لها. فهي لم تبلغ تماماً الأهداف التي سُطِّرت لها، ووجدت من أجلها. كما إنها ومنذ بداياتها لاقت معارضة شديدة من فئة الكتّاب الأفارقة باللغة الإنجليزية، أمثال النيجيري وول سوينكا (صاحب نوبل للآداب (1986) ومواطنه تشينوا أتشيبي (1930-2013)، وبعض كتاب ما يطلق عليهم تسمية MBARI CLUB بمدينة إيبادان النيجيرية)، والجنوب إفريقي إيزشيل مفاليلي (1919 - 2008)، حيث فضلوا جميعاً عدم الانخراط في توجُّهات الرئيس السينغالي الأسبق سيدار سنغور، منتقدين، في السياق نفسه، مفهوم الزنجية، واصفين إياه بالمفهوم الخطير، خصوصاً بالنظر إلى ما تضمَّنَه- بحسب معارضي التوجيه دائماً- من بعد رومانسي، نرجسية وﺬاتية، مع ميل لجعل القارة السمراء مرادفاً لليوتوبيا وللبراءة والصفاء، كما عابوا على مؤسِّسي الزنجية تغليبهم الجانب الفرانكفوني، وحصر إفريقيا في علاقتها مع الاستعمار الفرنسي فقط، والذي يختلف - بحسبهم - في تعامله مع ثقافة وهوية الشعوب الأصلية عن منطق الاستعمار الإنجليزي.

اليوم، أحداث سياسية وأخرى اجتماعية، تجعل من "الزنجية" مصطلحاً خارج اللحظة الراهنة، فهموم الكاتب الإفريقي لم تعد محصورة في قضايا التحرُّر والانتماء، والأدب القادم من جزر الكاريبي صار مشغولاً بواقعه وعلاقاته بالداخل، أكثر من الاهتمام بالقوى الخارجية المؤثرة، وضع لم يكن ليستحسنه ربما فرانز فانون اليوم، فهو كان يرى في تحرير الفرد الزنجي من الاستعمار مرحلة أساسية، ولكن ليست نهائية، في سبيل تحقيق الذات الزنجية، تليها مراحل أخرى للسمو بها، ومحو الفوارق بينها وبين الجنس الأبيض.



مواضيع ذات صلة

التعليقات

أترك تعليقا

شكرا لك تمت إضافة تعليقك بنجاح .
تعليق