الرئيسية حوار وملف حوار

بعد 20 سنة من الغياب، الصحفي مراد شبين في حوار لـ"يڨول":

"الضغوط موجودة دائما في التلفزيون والفرق يكمن في الصحفيين"


مراد شبّين

24 ماي 2014 | 16:01:00
shadow

قد لا يعرف الجيل الجديد من الصحفيين والشباب مراد شبين، كونه غادر الجزائر قبل 20 عاما، وتحديدا العام 94، عندما بدأ مارد العنف يعصف بالجزائر. أطل الصحفي مراد شبين على جمهور التلفزيون الجزائري في بداية التسعينيات، من خلال برنامج "في لقاء الصحافة"، الذي كان يستضيف شخصيات سياسية صنعت الحدث إذ ذاك؛ مثل عباسي مدني وسعيد سعدي وأحمد بن بلة، وكان شبين يواجههم بأسئلة جريئة لم يصدّق أحد من الجزائريين أنه سيعيش ليسمعها.. لقد كانت تلكم الأسئلة ثمارَ التعددية الإعلامية التي جاءت بها تضحيات أكتوبر 88، وكان شبّين إحدى "أيقوناتها" إلى جانب عدد من زملائه.


الكاتب : رشيد ثابتي


 

اختفى مراد شبين في ظروف عرفت اختفاء كثير من الصحفيين وإطارات الجزائر.. وبعد عشرين سنة من الغياب، هو ذا شبّين يكشف لقراء "يڨول" قصة اختفاءه وأين ذهب وأين هو الآن وماذا يفعل، كما سيحكي عن تجربته وسيدلي أيضا برأيه في المشهد الإعلامي الذي تعرف البلاد حاليا، دون أن يغفل عن إعطاء "نصائح وتوجيهات" من أجل إعلام رصين ومسؤول "يعيد الثقة بين الصحفي والسياسي والمجتمع"، كما قال.

 

يڨول: أين هو مراد شبين الآن، وماذا يفعل؟

مراد شبين: أنا الآن في أبوظبي، أعمل رئيس تحرير تنفيذي في قناة سكاي نيوز عربية. إنها تجربة مهنية بدأتها منذ أكثر من سنتين، وأعتبرها، حتى اللحظة،  واحدة من أفضل مغامراتي في العمل التلفزيوني.

 

يڨول: انتقلتَ من قناة الحرّة في أمريكا إلى سكاي نيوز في أبو ظبي، أهو انتقال مهنيّ صرف أم أن هناك أسبابا أخرى؟

مراد شبين: انتقالي من واشنطن إلى أبوظبي لم يكن مخططا له البتة، فقد كانت ظروف عملي في الحرة مقنعة جدا.. كنت محاطا بزملاء متميزين وفي بلد لا تمر فيه لحظة دون أن تتعلم شيئا جديدا.. لكن ظهور مشروع سكاي نيوز عربية قلب كل حساباتي، لأكثر من سبب؛ أبرزها على الإطلاق هو رغبتي في المشاركة في تأسيس قناة إخبارية عربية بمواصفات سكاي نيوز.. منْ منَ الصحفيين المهنيين لا يحلم بالعمل في قناة مثل سكاي البريطانية..؟ قناة تضع الأفكار والمواقف المسبقة والأجندات جانبا وتنطلق إلى مشاهديها بالأخبار والوقائع لحظة حدوثها.. قناة تعتمد السرعة والدقة ولغة وتقنيات العصر.. كنت مهتما جداً بالمشاركة في نقل هذه التجربة إلى المشاهد العربي.. وما شجعني أكثر هو نخبة الإداريين والصحفيين الذين تم اختيارهم لتأطير المشروع.. هذا السبب وأسباب أخرى - مثل تعلقي بأبوظبي ورغبتي في الانتماء لقناة تكون إخبارية مائة بالمائة- كانت كافية لأحسم في الأمر.. وصدقني أن كثيراً من المحيطين بي استغربوا أن أقرر الابتعاد عن عائلتي -التي لاتزال مقيمة في واشنطن- وأن أضحي براحتي المادية وبعلاقاتي المتميزة مع إدارة الحرة، لمجرد الحلم بمغامرة مهنية جديدة.. لكنني فعلت وأعتقد أن قراري كان في محله، رغم أن التجربة لم تصل بعد إلى مرحلة النضج والاكتمال.

 

يڨول: غادرت الجزائر، بعدما عرفك الجمهور كـ"أيقونة" لعهد التعددية الإعلامية، هل غادرت نتيجة موقف ما أم للبحث عن فضاء أرحب؟

مراد شبين: تحدثني عن مغادرتي للجزائر وكأن الأمر حدث أمس.. ما حدث كان قبل عشرين عاما.. في نهاية عام 1994 لم أكن أبحث لا عن فضاء أرحب ولا كنت صاحب موقف يملي علي اتخاذ قرارا حاسما.. هذا موضوع مؤلم جداً أفضل دائماً تفادي الخوض فيه.. لأن ما عشناه في تلك الفترة كابوس أتمنى ألا تعود إليه الجزائر أبدا.. في تلك الأيام ..أعتقد أننا كنا جميعا ضحايا.. هناك من غادر بيته على نعش ومن نجا من النعش.. وغادر على متن طائرة.. وهناك من ظل يصارع بما أوتي من صبر وأمل في انتظار انفراج الأزمة.. لكن دعنا من كل هذا.. ولنقل أنني غادرت ليس بحثا عن فضاء أرحب، بل عن فضاء أقل ضيقا.

 

يڨول: عُرفت ببرنامج "في لقاء الصحافة" الجريء، أحقا لم تكن خطوط حمراء للبرنامج؟

مراد شبين: لو لم تكن للبرنامج خطوط حمراء، لكنت قدمته وأنا أرتدي "شورت" وقبعة (أمزح).. طبعا .. الخطوط الحمراء موجودة بل وضرورية في كل عمل نقوم به.. الأخلاق والأعراف والمتطلبات المهنية والتقنية والمحيط.. كلها تفرض علينا ضوابط وحدودا لحريتنا في العمل.. لكن إذا كان قصدك الضغوط والخطوط الحمراء السياسية، فذلك أيضاً كان موجودا وفي بعض الحالات أكثر من اليوم.. أذكر مثلا أنني تلقيت ذات مرة قصاصة ورق من أحد المسؤولين تتضمن أسئلة لأطرحها على عباسي مدني واكتشفت في أعلى القصاصة أنها كتبت في "جنان الميثاق".. لكن ما فعلته هو أنني ألقيت بها في سلة المهملات.. أذكر أيضاً  أنني أُبلغت مرة بتأجيل لقاء مع لويزة حنون وطلب مني أن أخبرها أن سبب التأجيل هو أنني مريض، لكنني رفضت وقلت للإدارة ابحثوا عن مبرر آخر، فأنا صحفي ولست شريكا في التلفزيون.. ليس عيبا أن تكون هناك خطوط حمراء لدى السلطة.. العيب هو ألا تكون لدى الصحفي أيضاً خطوط حمراء يفرضها بدوره.. المهنية والنزاهة والصدق مع المشاهد هي كل ما نملكه من سلطة كصحفيين.. وقد كنا في بداية التسعينات نعبر عن ذلك ونتفاوض مع مدراءنا ونناقشهم ونقنعهم أحيانا.. لكن في ظل الاحترام المتبادل.. وما ساعدنا في تلك الفترة هو التقاء رغبة السلطات – بغض النظر عن نيتها وأهدافها غير المعلنة- في الخروج من ثقافة الحزب الواحد ورغبتنا في استغلال تلك الفرصة لرفع سقف الأداء المهني ومنافسة القنوات الفرنسية التي كانت آنذاك تسيطر على المشهد الجزائري.. طبعا.. كنا محظوظين أيضا بالعمل مع مدراء في قامة وذكاء عبد القادر إبراهيمي والمرحوم عبدو بوزيان والصديق عمار بخوش.

نقطة أخرى لا يجب إغفالها وهي أن المذيع الجزائري في التسعينات لم يكن يواجه قنوات محلية وعربية منافسة كما هو الحال مع مذيعي اليوم، المطالبين ببذل جهد أكبر وامتلاك مؤهلات أكثر لإثبات حضورهم وتوسيع قاعدتهم الجماهيرية.

ولكن يجب الاعتراف أيضاً أن سقف الحرية المتاح اليوم خارج وسائل الإعلام الحكومية في الجزائر لم يتوفر أبدا في السابق ولا يتوفر اليوم في أي دولة عربية أخرى.. أتحدى أيا كان أن يرشدني إلى صحيفة عربية تجرؤ على نشر كاريكاتير كالذي ينشره ديلام في ليبيرتي أو عمودا صحفيا كالذي ينشره بوعقبة في الخبر وكمال داوود في Le quotidien d'Oran.

 

يڨول: هناك "فوضى فضائيات" في الجزائر، والجمهور في عمومه يشتكي من المحتوى.. كيف تقيم التجربة في الجزائر وما أسباب "الفوضى"؟

مراد شبين: من الظلم أن نسارع للحكم على هذه الفضائيات اليوم.. دعوها تولد وتكبر ثم احكموا عليها بعد ذلك.. الجمهور بطبعه يشتكي دائماً ولا يتأقلم بسرعة مع الجديد.. وهذه ظاهرة صحية وضرورية لتطوير الخدمة وتحسين الأداء.. أنا شخصيا أستغرب ممن يهاجمون هذه القنوات.. صحيح أن هناك من ركبوا الموجة وتحولوا بين ليلة وضحاها إلى مؤسسي ومدراء قنوات خاصة.. وصحيح أننا نصاب أحيانا بالصدمة مما نشاهد.. لكنني كنت سأصدم أكثر لو أنني شاهدت منذ اليوم الأول قنوات في القمة مهنيا وتقنيا.. بكل صراحة، بالنسبة لي إنها تجربة جيدة ستتطور وتضيف وتكشف عن مواهب ونجوم.. بالنسبة لي هذا أهم تطور شهدته الجزائر في السنوات الأخيرة.. عندما أشاهد منشطين وصحفيين من طراز قادة بن عمار ومصطفى كساسي وأمينة بوعماري وعبد النور بوخمخم  وأحمد جوامعي وأحمد لهري وغيرهم.. أشعر بالفخر.. لا يجب أن تصدقوا أن هناك جيلا أفضل من جيل.. بل بالعكس الجيل الجديد في الجزائر يملك من الأدوات والمؤهلات ما يكفي لمنافسة أفضل القنوات التلفزيونية.. لكن بيئة العمل للأسف هي المشكلة.. أنت لا يمكن أن تصنع ميسي بعقلية وبراتب لاعب في بطولة "بين الأحياء".

 

يڨول: أهي ظاهرة صحية أم "مرضيّة" أن تكون لكل جريدة قناة في الجزائر؟

مراد شبين: لن أقول هي ظاهرة صحية ولا مرضية.. هي نتيجة طبيعية لوضع خاص تعيشه الجزائر.. نجاح تجارب الصحف المستقلة على مدى العقدين الماضيين خلق لدى أصحابها الرغبة في خوض تجربة التلفزيون.. خاصة وأنهم يملكون المال والخبرة في التسيير وشبكة العلاقات المطلوبة.. وهو ما لا يتوفر لدى كثير من صحفيي التلفزيون الرسمي.. لكن يجب الحذر هنا والتنبيه إلى أن إنشاء قناة تلفزيونية ليس كتأسيس جريدة أو إذاعة خاصة.. الأمر مختلف تماماً.. التلفزيون لا يمكن أن يحقق مردودا تجاريا قبل خمس سنوات على الأقل من إنشاءه.. وهو مؤسسة لا تتحمل سياسات التقشف والعوز و"البريكولاج".. التلفزيون صناعة ثقيلة مثلها مثل صناعة الصواريخ.. إما أن تجيد التحكم في التقنيات ومراحل الإنتاج وتملك مهندسين مختصين وإدارة محنكة.. وإما أن تنتج صواريخ تنفجر في وجهك قبل الآخرين.. أنت في التلفزيون لا تعرض مثل الصحف مادتك في الأكشاك المحلية.. بل على القمر الصناعي مع "سي أن أن" و"كانال بلاس" و"العربية" و"أم بي سي".. لذلك فأنت مطالب بالظهور بنفس مواصفات القنوات الدولية.. ومطالب بأن تواكب الجديد على كل المستويات..

عندما تقول لي إن صحيفة ما تملك تلفزيونا، فكأنما تقول إن شقة ما تملك حيا سكنيا.. لأن ميزانية تلفزيون تكفي لتأسيس عشرات الصحف ومئات المواقع الإلكترونية والإذاعات والمؤسسات البحثية.. والاستثمار في قناة تلفزيونية عملية معقدة جدا من كل النواحي.. اللهم إلا إذا كان القصد من ذلك هو اقتناء مساحة على أقمار البثّ واشتراء طاولة وثلاثة كراسي وكاميرتين وطاقم صوت وإضاءة ثم توظيف مذيع وضيفين لإنتاج برامج حوارية على مدار الساعة.. في هذه الحالة سأقول لك إنك تبحث فقط عن منبر لنقل رأيك، ولن أصنف منبرك هذا ضمن الصناعة التلفزيونية..

مع كل هذا.. سأكون إيجابيا في مقاربتي وسأنتظر ما سيفرزه المشهد السمعي البصري خلال السنوات المقبلة.. سينهار بلا شك أصحاب المقاولات الصحفية والطامعون في مجرد الكسب المادي.. ولن يبقى في الصورة إلا من يسعون فعلا لخوض تجربة مهنية قادرة على التجديد والمنافسة والإبداع. 

 

يڨول: ما رأيك في الفضائيات التي تتبنى موقفا وخطا سياسيا أو تدعم السلطة؟ وإن كانت مضطرة مثلا، فهل من مخرج لها يحفظ لها بعض المصداقية؟

مراد شبين: بكل صراحة.. ما شاهدته خلال حملة الانتخابات الرئاسية الأخيرة أسعدني وأمتعني كثيرا.. برامج حوارية قوية.. ضيوف جيدون ومديرو حوار متميزون وتنوع يبعث على التفاؤل.. لكن في الوقت نفسه أحزنني أن تتحول قنوات بعينها إلى أجهزة دعائية رهيبة.. كان بإمكان من يدعمون مرشحا بعينه أن يعلنوا ذلك ويكرسوا قنواتهم لدعم مرشحهم كما فعلت قناة "الوئام" مثلا.. لا أن يحاولوا الظهور بمظهر المحايد.. لأن المشاهد ليس غبيا ولا معتوها.. الصحافة مثل الطب.. يحكمها ميثاق شرف ومبادئ لا يجب الحياد عنها.. الطبيب عندما لا تكون نيته علاج المريض فهو مجرم.. والصحفي الذي لا تكون نيته إعطاء المعلومة الصحيحة والدقيقة وغير المنحازة للمشاهد يستحق الإدانة والطرد من مهنتنا.. هل من المعقول أن نشتم الناس وننتهك أعراضهم وخصوصيتهم وحياتهم الشخصية لمجرد أنهم يخالفوننا الرأي..؟ هذه سابقة خطيرة يجب ألا تتكرر في المستقبل.. ليكن الصحفي صحفيا والسياسي سياسيا.. مصلحتنا كصحفيين أن نتقاضى راتبا مقابل نقل الأخبار وإسماع كل الأصوات باختلاف مواقفها وإثراء معلومات المشاهد وكسب ثقته.. ومصلحة السياسي أن يسوق لأفكاره وحزبه ومواقفه كما يشاء.. لا أن يستخدمنا أو يشتري ذممنا أو يجيشنا لذلك .. لكنني أعتقد أن الأمور ستتحسن في المستقبل، وسأظل أصر على أن ما يحدث اليوم يظل إيجابيا رغم كل المساوئ والسيئين..

 

يڨول: لو كنت وزيرا للإعلام في الجزائر، ما هو أول قرار ستتخذه؟ وما الخطوط العريضة لديك للنهوض بالقطاع؟

مراد شبين: أول قرار سأتخذه هو أن أرسل خطابا للرئيس أطلب فيه إلغاء وزارة الإعلام.. هل تعلم أن أفضل سنة في تاريخ الإعلام الجزائري كانت سنة 1990.. السنة التي أعلن فيها عن فتح المجال للصحافة المستقلة.. السنة التي تراجعت فيها أخبار الرئيس في النشرات إلى ما بعد أخبار شؤون النقابات وقضايا الأسواق وأزمات السكن وشح المياه وغيرها.. السنة التي كان يطل فيها كمال علواني على المشاهد بأول خبر في النشرة عن خلاف بين موظفي البريد وإدارتهم بشأن الرواتب أو عن سقوط مثير لطائرة في شرق أوروبا.. تلك كانت السنة التي أُلغيت فيها وزارة الإعلام.. لا أوروبا ولا أمريكا تعترف اليوم بوزارة اسمها وزارة الإعلام.. الإعلام تحكمه قوانين ومبادئ يسهر على ضمانها مجلس أعلى منتخب وهيئات مهنية مختصة.. لا وزير متحزب أو محسوب على سلطة أو معارضة.. يجب أن نصل ذات يوم إلى إعادة الثقة بين السياسي والصحفي والمجتمع.. لا أن يحمل كل من هذه الأطراف غلا وحقدا على الآخر.. علينا أن نتمكن يوما ما من مواجهة الآخرين كفريق كرة.. لا أن نلعب ضد بعضنا البعض.. ونتبادل التهم عندما تسجل أهداف في مرمانا بلا مبرر..

 

يڨول: خضت تجربة فضائية طويلة في الخارج، كيف ترى المدرسة الأنڨلوسكسونية مقارنة بالفرنكفونية؟

مراد شبين: أفضّل التمييز أكثر بين المدرستين الأوروبية والأمريكية.. لأن المدارس الفرنسية والأنڨلوسكسونية بالشكل التقليدي الذي عرفت به في السابق لم تعد قائمة تقريبا، في ظل العولمة وتحول الإعلام إلى شبكات متداخلة ومتفاعلة على الصعيد العالمي.. لكن الاختلاف بين الثقافتين الأوروبية - وأقصد هنا خاصة الفرنسية والإنجليزية- والثقافة الأميركية هو ما يصنع الفرق.. هناك اتفاق بين المدرستين على المبادئ الأساسية التي تعتمد دقة ومصداقية المعلومة، ولكن طريقة انتقاء وتوظيف تلك المعلومة مختلف تماما.. الفرنسيون والإنجليز- في مجال الإعلام التلفزيوني- يعطون الأولوية- على الأقل نظريا- للموضوعية والحياد ويفرضون على الصحفي ألا يتخذ موقفا مسبقا من الأحداث أو من ضيوفه.. ويبنون مقاربتهم على التحقيق الميداني الأقرب إلى التحقيق البوليسي.. أما الأمريكيون فيعتقدون أن الصحفي هو شخص كغيره وصاحب موقف من الأحداث من حقه أن يدافع عنه أمام ضيوفه، لأن العكس يعني أنه ينافق ويغالط المشاهد.. لذلك فعندما تشاهد في أمريكا قناة "فوكس نيوز" تجد أن مذيعين مثل بيل أورايلي أو شان هانيتي، وهم من اليمينيين المحافظين، لا يجدون أي حرج في الدفاع عن آرائهم ومهاجمة ضيوفهم ومعارضيهم بالحجة المقنعة والأدلة الدامغة.. وهو ما يفعله المذيعون الليبراليون مثل راشل مادو على قناة "أم أس أن بي سي" MSNBC مع خصومهم.. كما أن انتقاء الأخبار يتم وفقا لسياسة القناة ومواقفها الإيديولوجية.. مع استثناء قناة "سي أن أن" التي تحاول أن تضع نفسها في موقف وسط وجامع، ولكن ذلك لا يحقق لها الشعبية المطلوبة دائما، بسبب ثقافة المشاهد الذي يميل إلى المكاشفة والمصارحة.

شخصيا.. أفضل مدرسة الـ"بي بي سي" في الأخبار والمدرسة الفرنسية في الروبورتاج والتحقيق الصحفي.. أنا لا أحبذ كثيرا فكرة أن يمنح الصحفي راتبا مقابل التعبير عن آراءه ومواقفه.. وأعتقد أن مهنية الصحفي تقاس بمدى قدرته على النأي برأيه الشخصي عن الخبر وعلى نزاهته في جمع وتحليل وتقديم الوقائع للقارئ أو المشاهد.

 

يڨول: أين نجح جيل شبين وأين أخفق؟

مراد شبين: النجاح والإخفاق برأيي مفاهيم نسبية .. هناك من يعتقد أنه نجح لأنه حقق الشهرة وآخر لأنه جمع المال وثالث لأنه تبوأ مناصب القيادة.. في مجال عملنا الصحفي من الصعب الحديث عن النجاح والفشل بشكل مطلق.. لأن معايير كثيرة تتدخل في تحديد المسار المهني للصحفي ومعظمها بعيدة تماما عن أداءه.. الولاء ومعايير الثقة وتقلبات السياسة وفرص السوق والصدف أحيانا تؤثر بشكل مباشر في حياة الصحفي أكثر من أي مهنة أخرى.. وإذا كان ضروريا أن أتحدث عن جيلي - وإن كنت لا أصنف الناس أبدا وفقا لتواريخ ميلادهم- فقد كان ضحية لأحلك فترة في تاريخ الجزائر.. بين من قتل ومن تشرد ومن أمضى سنوات تحت حصار الإرهاب والتهميش والعوز الاجتماعي.. دفع الجيل الذي انتميت إليه ثمنا غاليا لصدام لم يكن طرفا فيه تماما.. لكن أكبر أخطاء ذلك الجيل هي انقسامه على نفسه بين معرب وفرونكوفوني وبين إسلامي وعلماني وبين مُوال ومعارض.. ومن خلال احتكاكي اليوم واتصالاتي ببعض الزملاء من الجيل الجديد، فإنني أعتقد أن الأمور تحسنت كثيرا وأنّ عُقد الماضي بدأت تتلاشى وأنّ أبناء المهنة أصبحوا بكل خلافاتهم أكثر تضامنا وتماسكا وتسامحا ممن سبقهم.. أجمل الصور التي شاهدتها خلال حملة الانتخابات الأخيرة هي أن الخصوم يتصافحون في نهاية أي حوار.. وأن الصحفيين والساسة معا يتفقون دائما على أن العنف خط أحمر.. أحمد الله أننا اتفقنا أخيرا على هذا الموضوع بعد سقوط مئتي ألف قتيل.

 

يڨول: لو كان للتاريخ مسارات أخرى.. لو لم يوقف المسار الانتخابي في الجزائر في جانفي 1992، أكنت لتغادر البلد؟ 

مراد شبين: بصراحة.. لو لم يوقف المسار الانتخابي في جانفي 1992، لكنت ربما غادرت الجزائر في نفس الشهر.. ما أذكره عن  العاصمة بعد الدور الأول من انتخابات 91 هي أنها كانت ستتحول إلى كابول أو طهران.. هذا ليس موقفا أو رأيا.. أنا لم أكن في تلك الأيام ضد أو مع طرف بعينه.. لكن ما شاهدته وما سمعته آنذاك أقنعني أننا كنا متجهين مباشرة نحو الحائط.. 

 

يڨول: هل فكرت في العودة؟ ألم تصلك عروض من الجزائر؟

مراد شبين: الحنين إلى الوطن حالة دائمة لدى أي مهاجر.. والعودة إليه طموح يراودني بشكل يومي.. ورغم ولائي الكامل وغير المشروط لوطني، إلا أن عشرين سنة من الغياب لا يمكن أن تمر دون أثر وتداعيات..  هناك ظروف عائلية وأخرى مهنية تفرض نفسها على الشخص بعد كل هذه السنوات.. وأنا ابن اليوم.. لا "أيقونة" الأمس كما سميتني (أضحك).. تغريني كثيرا هذه الثورة الجديدة في المجال السمعي البصري وكثير من أصدقائي يقترحون علي أفكارا ومشاريع هناك.. لكنني أقول لهم دائما: إذا لم يكن هناك من إضافة استثنائية غير مسبوقة يمكن أن تقدموها فلا داعي للتجريب.. الجزائر تعبت من التجارب الفاشلة.. ولا أعتقد أنها بحاجة لمبشّرين جدد يأتونها من وراء البحر ليلقنوها صناعة الإعلام.. بنا أو بدوننا هناك جيل قادم وقادر على التألق والتميز.. صدقني.. هذا هو رهاني الحقيقي. 

 

photo_1_1

مراد شبين محاورا عباسي مدني في بداية التسعينيات

photo_2_1

محاورا الراحل الشيخ محفوظ نحناح، رئيس حركمة المجتمع الإسلامي "حماس" (أكتوبر 1990)

photo_3_1

أثناء تغطية صحفية في الجزائر قبل بضعة أشهر

photo_4_1

بمناسبة تغطية رئاسيات 17 أفريل الفارط



مواضيع ذات صلة

التعليقات

  1. سفيان خودري   04 فيفري 2016

    Rabi yhanik khouya Mourad ou Nchallah tarja3 lebladek

  2. فتحي جمال   28 ماي 2014

    شكرا للموقع على هذا اللقاء المفيد .. ونتمنى التوفيق للصحفي مراد شبين

  3. ف. عاشور   26 ماي 2014

    أذكر مراد شبين عندما كان عمري 10 سنوات..لازلت أتذكر صوته ولغته القوية وهو يقول لضيوفه ..لحظة.. لحظة.. شكرا لهذا الحوار المميز

  4. Karima Sadki   26 ماي 2014

    Peut-on lire cet entretien sur la page en langue francaise?

  5. علي قسايسية   25 ماي 2014

    شكرا رشيد على الحوار الشيق مع الصحفي المرح مراد شبين الذي خسره الإعلام الجزائري، وضعيت الجزائر مع اختفائه و رحيل واختفاء العديد من لمثاله، ضيعت لحظة تاريخية كانت ستضعها في مصاف الدول والمجتمعات التي كنا نحلم بها، ليس فقط في مجال الإعلام ولكن في كل القطاعات. صحيح أن البكاء على الأطلال لا يفيد في شيئ، منذ 20 سنة أو لنقل منذ زهاء ربع قرن لم تتوقف الجزائر عن التقدم الطبيعي فقط، ولكنها كانت تتقهقربوتيرة سريعة نحو الدرك السفل.التغيير المحتشم البطيئ لإتجاه التطور نحو الأعلى لم يمكن الجزائر بعد من العودة إلى مستوى الصفر الذي يسمح بولوج الاتجاه الموجب لمسار التاريخ. الجزائر اليوم تتوفر على طاقات بشرية ومادية هائلة لم تشهدها في اي لحظة من تاريخها. ولكن يبدو أنها تهدر هباء منثورا إذا لم يتم تدارك الأمر واستثمارها استثمارا عقلانيا لفائدة الحلم الجزائري المشترك بين كل أبناء الجزائر في الداخل والخارج. مثل التجربة التي اكتسبها شبين وغيره من الذين توفرت لهم فضاءات المبادرة وبوتيقات تفجير الطاقات، لا يمكن للذين واصلوا العمل في الجزائر في ظروف مناوئة للنجاح أن يكتسبوها مهما كانت قدراتهم وإراداتهم الصادقة. ومنه فإن الاسراع في عودة الجزائر إلى الصعود في فضاء الإعلام السنعي البصري في حاجة لخبرة وتجربة مراد شبين وغيره . كرفت مراد كنجم تلفزيوني في اللحظة الذهبية للإعلام الجزائري، ولكن عرفته أكثر من خلال هذا الحوار باسلوبه المرح وقدرته على التحليل العميق والمقارنة الصائبة والحجة القوية وبتشبعه بمبادئ واخلاقيات مهنته. حرام أن تهدر مثل هذه الكفاءات فيما لا يفيد الاعلام الجزائري.

  6. Salim Hadji   25 ماي 2014

    Merci pour cet interview avec une icone de la television algerienne.

  7. فتيحة عقبي -باريس   25 ماي 2014

    راح الشعر.. وبقي المخ

أترك تعليقا

شكرا لك تمت إضافة تعليقك بنجاح .
تعليق