الرئيسية ثقافة أفكار

في الحاجة إلى حكمة أبي العلاء المعري

بقلم حسن العسبي


11 جويلية 2014 | 14:30
shadow

ماذا لو كان أبو العلاء المعري بيننا اليوم، ما الذي سيقوله عن حلب وعن بلدته معرة النعمان؟. وما الذي سيكتبه عن الدم المراق، عبثا، لأسباب طائفية بين نهر العاصي ونهر الفرات؟. ألن يردد حكمته الحزينة: "هذا ما جناه علي أبي وما جنيت على أحد"، هو الذي اعتزل الناس 45 سنة كاملة ورفض أكل اللحوم، وأضرب عن الزواج ورفض الإنجاب؟.


الكاتب : كاتب صحفي من المغرب


الحقيقة، أن ما أعاد إلي، ذكرى هذا الفيلسوف الأديب، الذي ظل منتصرا للعقل والمنطق، طيلة حياته، ولم يجد خصومه من تهمة يلصقونها به غير الزندقة، هي قصة أحد أجمل كتبه، الذي اعتقد لقرون طويلة أنه من بين كتبه المفقودة الضائعة، بل تمة من شكك حتى في وجود ذلك الكتاب فعلا، اعتبارا لموضوعه وطبيعة شخوصه وأبطاله. حتى شاء القدر الجميل، أن تكتشف نسختان منه، قويتا السند علميا، بالمغرب. كانتا نائمتين، في الحفظ والصون بالخزانة الملكية بالرباط. ويعود الفضل في اكتشافهما وتحقيقهما وإخراجهما إلى النور، إلى الباحثة المصرية عائشة بنت الشاطئ. بعد أن عينت أستاذة معارة من جامعة عين شمس بجامعة القرويين بفاس سنة 1970. فأعاد العالم، وليس فقط العرب والمسلمون، اكتشاف ذلك المجلد الضخم، الذي اسمه "رسالة الصاهل والشاحج".. ليكون ثاني كتاب/ رسالة لأبي العلاء المعري، بعد كتابه الأشهر "رسالة الغفران"، الذي هو ثورة فلسفية وفكرية وأدبية في زمنه وحتى في زمننا اليوم.

إن الكتاب المكتشف هذا بالمغرب، هو رواية للتاريخ على لسان البهائم، حين كان المشرق العربي، وبلاد الشام والعراق منذ ألف عام، مستباحة بين الروم والفرس والفاطميين الشيعة. وهي تقنية لم يعتمدها العرب في كتاباتهم كثيرا، من قبل، على اعتبار أن كتاب "كليلة وذمنة" هندي فارسي ترجم إلى العربية من قبل ابن المقفع. والحكمة في كتاب أبي العلاء المعري هذا، هي في انبنائه على الأضداد، التي تقود إلى اليقين، ذلك الشئ الذي نسميه "الحقيقة". لأنه من خلال تتبعنا لصفحات الكتاب المدوخة، الشديدة التكثيف، القوية الحبكة، نكتشف أننا أمام نص تربوي للحياة. فيه درس التاريخ، فيه درس السياسة بشبكة مصالحها الفتاكة، فيه قلق الإنسان أمام شرط وجوده كإنسان وفيه بئر عميقة من الأمثال واللغة العربية على أصولها البكر. وحين ينجح كاتب مفكر في نسج خيوط المعنى، بين ذلك كله، تكبر هامته المعرفية، ويلج بمثل ذلك الكتاب بيسر إلى مراتب العالمية.

ما الذي تقوله قصة "رسالة الصاهل والشاحج"؟. هي قصة بسيطة ومعقدة في الآن نفسه. لأنها خلاصة لقاء بين حصان وبغل (الحصان كما نعلم هو الذي يصهل والبغل هو الذي يشحج). الحصان لفارس قادم من مصر والبغل لأبي العلاء المعري. لكن ما الذي جمع بينهما في طريق الحياة؟. كان للمعري، أبناء أخ، بعضهم يخدمه في بيته بسبب عماه، وشاء ظلم أحد الولاة، أن يفرض عليهم دفع ضريبة إنتاج عن قطعة أرض جرداء قاحلة في ملكيتهم، فطلبوا من عمهم أبي العلاء، أن يحمل مظلمتهم إلى حاكم حلب، المنصب من الفاطميين، عزيز الدولة أبى شجاع فاتك الرومي. فلم يجد المعري من طريقة للإستجابة لحاجة زائلة لبعض من دمه، غير أن يكتب كتاب حكمة إلى رجل السياسة ذاك، بدلا من أن يستجديه مباشرة. بل إنه بدلا من أن ينزل إلى قاموس التلطف والإستجداء أمام باب الحاكم، عمل من خلال تقنية كتابته أن يلزم أبى شجاع فاتك الرومي أن يصعد هو إلى حكمته التي أراد أن يوصلها إليه، عن حال البلاد والعباد، عن حال التشرذم والضعف للعربي المسلم، بين الروم والفرس. وعلى امتداد 350 صفحة، سنرافق قصة التقاء بغل أبي العلاء (أليس البغل من يحمل أثقال الآخرين بصبر)، مع حصان فارس قادم من مصر، عند بئر ماء في طريق الحياة إلى حلب، والحوار الذي دار بينهما.

لقد اعتبر البغل الفرصة مواتية كي يطلب من خاله الحصان حمل شكواه إلى حاكم حلب، التي هي عبارة عن مظلمة شعرية. والمثل يعلمنا هنا، أنه قيل مرة للبغل: "من أبوك؟"، فأجاب بسرعة: "الحصان خالي". لأنه لم يرض أن يعترف أن الحمار أباه. ولأن الصاهل لم يرضى بتلك القرابة مع البغل، حتى والخال أتبث نسبا من العم، فإنه سيأنف من تلك الخؤولة، فصب غضبه وسخريته على الشاحج، فتخاصما، واقترح الحصان الإحتكام إلى الحمامة "فاخثة" المعروفة بالكذب، التي كانت تحط على غصن قريب. فرفض البغل أن تكون حكما بينهما، لأنها حمقاء ذات أراجيف، واقترح أن يكون الجمل "أبو أيوب"، الذي جاء للإرتواء من ماء البئر حكما بينهما. فحلقت الحمامة مسرعة صوب البعير وحرفت القصة، مدعية أن البغل يتهمه بالكذب والحمق، فاهتاج الجمل وهجم على البغل. فتعقد الموقف، قبل أن يكتشف الجمل مكيدة الحمامة "فاختة"، فيقرر أن يكفر عن إساءته للبغل، بأن يتطوع هو لإيصال مظلمته إلى والي حلب. وحتى تستقيم الحكاية التي سينقلها إلى ذلك الحاكم، فإنه اقترح الإنصات للثعلب، الجوال في الأصقاع، حامل الأخبار الموثوقة، في ما يشبه التقارير الصحفية، حتى يكتمل الإطار العام للمظلمة.

تلك قصة كتاب أبي العلاء المعري "رسالة الصاهل والشاحج" التي وجدت نائمة محفوظة في الخزانة الملكية بالرباط، في نسختين واحدة حفصية من تونس والثانية حضرمية من سبتة المحتلة اليوم من قبل الإسبان. وهو الكتاب المتعة، العميق، الذي يعلمنا من بين ما يعلمنا، ما قاله بعض الرعاة لأهلهم: أن لا تذموا القتادة (شجر بشوك) فإن لها علينا حقا. قيل: وماذاك؟. قالوا: أنها لم تنبث بأرضنا.. هل حقا لم تبث بأرضنا العربية اليوم القتادة؟. مثلما يعلمنا ما قالته حذام لأهلها الغافلين: "لو ترك القطا ليلا لنام" (القطا حمام صحراء) حين حذرتهم من عدو قادم بليل ولم يصدقوها فكان الذي كان. أليس ما يحدث في الشام والعراق شبيها بذلك اليوم. ولأنه ليست الرقلة (صغير النخل) عمة للشيحة ولا خالة، فإن حساب السياسة ذاب في النسيان، مثلما نسي حاكم حلب ودمشق وبغداد منذ ألف عام، والذي تبقى خالدا في الزمن هو أبو العلاء المعري، لأن يمناه خطت كتبا فاتنة، بليغة، من قيمة "رسالة الصاهل والشاحج".



مواضيع ذات صلة

التعليقات

أترك تعليقا

شكرا لك تمت إضافة تعليقك بنجاح .
تعليق