الرئيسية ثقافة أفكار

عرض لأبعاد السؤال

هكذا تكلّم مالك حداد..ما معنى الكتابة بلغة الآخر؟


مالك حداد

16 ماي 2014 | 20:02:00
shadow

تباينت مواقف الكـــــــتاب الجزائريين حول "اللغة الفرنسية" التي كــــــتبوا بها ســـــــردياتهم وأشعارهم، وقد أبانت عن مركزية اللغة كإشكال يتجاوز بعده التعبيري إلى بعد أكثر اتصالا بكينونة إنسان ومجتمع وثقافة، بتعبير آخر، كان الكتاب الجزائريون الذين كتبوا بلغة المستعمِر يؤسسون لفكرة أنّ "اللغة" قبل أن تكون وسيطا تعبـــــــيريا، فهي عتبة الولوج إلى "الهوية" الجمعية، والإحساس بها، وبتأزماتها.


الكاتب : لونيـــــــــس بن علــــــ


 

بقلم: لونيـــــــــس بن علــــــــــــــي/ أستاذ النقـــــد الأدبــــــــــي والأدب المقارن بجامعة بجــــــــــــــاية

 

لم يكتف الاستعمار باحتلال الأراضي ونهب خيراتها، بل امتدّ إلى نهب الممتلكات الرمزية للشعوب المستعمَرة، من خلال تدمير بنياتهم الرمزية ممثلة في اللغة والثقافة والعادات والتقاليد والقيم التي هي أساس هوية هذه الشعوب، كما تعرّضت لغة المستعمرات لأشكال من الاضطهاد والتشويه والتدمير، تجلّت في إعطاء دور للنظام التعليمي الكولونيالي في فرض لغة المستعمِر، فمارست عنفا رمزيا على اللغات المحلية وعلى أشكالها التعبيرية من الفنون والآداب.

لقد أدرك المستعمِر أنّ المعركة الحقيقية ليست فقط تلك التي تدور رحاها في الجبال والأحراش والبوادي والسواحل، بل أيضا تلك التي تدور في أرض اللغة، فكان عليه أن يفرض وجوده، ويرسّخ أركان هذا الوجود، ويضمن له الاستمرارية، وهنا تلعب "اللغة" دورا محوريا في إعادة تنظيم النظام التمثيلي في هذه المجتمعات، وخلق ارتباكات في نظرة المستعمَر لوجوده وللعالم الذي ينبغي أن يعبّر عنه من خلال فصل عرى لغته المحلية، طالما أنّ وجود الإنسان مربوط إلى شجرة اللغة، وإلى إدراكاته اللغوية لهذا الوجود، ومن ثم فإنّ تغيير نظام تعبيره أو على الأقل إزاحة نظامه التقليدي سيخلق فيه تمزقات نفسية وانفصامات ذهنية، وارتكاسات قيمية، من شأنها أن تتركه عرضة للأزمات الوجودية.

في هذا السياق الاستعماري، ((تصبح اللغة الوسيط الذي يجري من خلاله إضفاء طابع أبدي على بنية تراتبية للقوة، والوسيط الذي تصبح من خلاله مفاهيم "الحقيقة" و "النظام" و"الواقع" راسخة، لكن هذه القوة تصبح مرفوضة في ظل ظهور صوت مابعد كولوينالي فعّال.)) ( 01 )

المسألة في جوهرها، كما يعرفها الباحث الأسترالي "أشكروفت" هي تثبيت الوجود الاستعماري من خلال توطيد النظام اللغوي الاستعماري، وضمان استمراريته الأبدية، حيث يتغلغل هذا الوجود في لاشعور المستعمرات، ويصبح جزءا من وجودها الجديد، وهنا تؤدي اللغة هذا الدور الخطير في ابراز الطابع الهيمني لهذا النظام، والقائم على تراتبية للقوى، في مقابل النظر إلى الآخر بدونية، واعتبار " لغته " لغة بذيئة، لا تعبّر إلاّ عن تخلّف أصحابها وعن بدائيتهم.

تلخص المشروع في جعل المستعمَر ينفر من لغته، ويقبل متوهما على لغة المستعمِر، كتأشيرة للاعتراف به، أو لميلاده الجديد. لكن، مالم يتكهّن به الاستعمار، هو أنّ هذا الواقع القائم على تراتبية سلطوية "سيد/ عبد، قوي/ ضعيف، متحضر/ متخلف والتي سخّر لها اللغة لتعزيزها كانت سببا في انبثاق وعي من داخل هذه المستعمرات، يُسائل ذاته، ويشكّك في مدى نزاهة لغة المستعمِر، وفي مدى براءتها من أيّ نوايا سيئة، بل أنّ هذا الوعي قد جسدته كتابات خرجت من أعماق هذه المستعمرات، ومعظمها كان نتاج المدرسة الكولونيالية، فهِمت أنّ المقاومة هي فعل لغوي، وهي استعادة للصوت المستبعد، او المكتوم، وأنّ المستعمر يُقاوم لا بالسلاح لكن بالرد عليه بالكتابة أي بالخطاب.

لغة المستعِمر واغتراب الرؤية

ما أفرزه الواقع الاستعماري هو "اغتراب اللغة" لدى النخبة المثقفة من أبناء المستعمرات، والتي وجدت نفسها تبحث عن الطريق السليم والصحيح الذي يمكن أن يوصلها إلى الوعي بذاتها وبهويتها الأصلية، وهو شكل من أشكال القمع الرمزي الذي ظلت آثاره ماثلة على جسد اللغة والثقافة والإنسان في هذه المستعمرات.

من بين المعضلات التي واجهت كتاب المستعمرات منها: بأيّ لغة يكتبون؟ ولأيّ متلق يكتبون؟ هي في جوهرها تمثّل أزمة "تمثيل" الصورة الذاتية لهذه النخبة من الكتاب الذين نشأوا داخل نظام رمزي مختلف عن النظام الثقافي والاجتماعي والرمزي لشعوبهم، فتوّلد عن هذه الأزمة خلل في علاقة الكلمات بالأشياء، ذلك أنّ لغة المستعمر تعبّر عن تجربة تمثيلية لا تنسجم مع خصوصيات الأشياء التي تؤثث المكان أو الطبيعة أو الإنسان في هذه المستعمرات.

يتجلى هذا الاغتراب اللغوي في هذه الفجوة التي بين خبرة المكان وبين اللغة المتاحة لوصف هذا المكان والخبرات التي تنتج عبر الاحتكاك والتفاعل به، حيث تبدو اللغة في هذا السياق غير كافية لوصف مكان جديد أو مختلف لا يوجد له بديل على صعيد الدوال في لغة المستعمِر، كأن تعجز هذه الأخيرة في وصف حيوانات المنطقة أو ظروفها المادية والجغرافية أو ممارسات أهاليها.

هل يعبّر الكاتب من أبناء المستعمرات عن ظروفه وخصوصيات هذه الظروف بلغة غير مهيأة لتمثّل على نحو دقيق تلك الظروف؟ ثمّة ضرورة هنا لممارسة انزياحات عنيفة داخل هذه اللغة أو الاستسلام لشرطيتها الدلالية والنحوية والتركيبة والانحباس في تصوراتها الذهنية، وبذلك يقول ما تريده هذه اللغة، وبذلك نكون أمام مقولين: مقول اللغة ومقول الذات الكاتبة، وهما في حالة تنافر وتضاد مؤلمين.

مالك حداد: اللغة تلك العزلة النبيلة والمأساوية:

كان مالك حداد نموذجا تاريخيا مهما يبرز العلاقة المتوترة بين كاتب انفصل بقوة التاريخ عن لغته الأم فوجد نفسه بين أحضان لغة أخرى، لكنها العلاقة التي كشفت عن نوع من القلق أو ربما التذبذب في الرؤية والوضوح في الآن ذاته.

كتب مالك حداد بلغة المستعمِر، وإن كان سيفضل لو أننا وصفنا له هذه اللغة بأنها لغة موليير، ايمانا منه أنّ التجربتين الاستعمارية واللغوية مفصولتان عن بعضهما البعض، أما مشكلة الجزائري فليست مع اللغة بقدر ما هي مع الجنرال "بيجو".

داخل هذا السياق المشحون بتوترات حاول حداد أن يخضعها لنسق تأملي وجدلي يصيغ رؤيته لما يشكّل هاجسا حقيقيا للكاتب الجزائري إبان الاحتلال الفرنسي، فلم يكتف بتقديم شهادة شخصية، بل أراد أن يكون صوت جيل حاصره التاريخ، ووجد نفسه في معترك أزمات ثقافية ووجودية كان للغة نصيب كبير في تعميق جراحهم الرمزية.

كانت اللغة الفرنسية عند مالك حداد هي ذلك المنفى الذي تحوّل إلى وضع درامي بلغ به مبلغا من التألّم الروحي، حيث لم يجد ما ينكى هذه الجراح إلاّ اختيار أشد الحلول قسوة وهي التوقف عن الكتابة باللغة الفرنسية بعد الاستقلال، وسواء أكان موقفه صائبا أم مبالغا فيه، فإنّ صاحب رواية "التلميذ والدرس" أراد أن يقدّم درسا للتاريخ حول التزام الكاتب الجزائري بقضايا وطنه، مؤمنا أنّ لا استقلال إلا بفك الارتباط بفرنسا لغويا، واستعادة علاقة الجزائر بمكوناتها الهوياتية على رأسها اللغة العربية (لغة الأم).

لم يقدم لنا حداد لاسيما في مقاله الطويل "الأصفار تدور في فراغ" محاكمة للغة الفرنسية، لكنه أراد أن يكشف عن الانسداد الذي طال أنظمة التمثيل الثقافية عند الكتاب الجزائريين، وما بلغوه من عزلة قاسية، كان من أهم أسبابها غياب القراء بل وانعدامهم، لأنّ معظم الجزائريين كانوا أميين، وبذلك فإنّ ما يكتبه الكتاب الجزائريون كان أشبه بمونولوغ داخلي، لا يصل إلى هؤلاء الذين كانوا ضحايا التاريخ، وضحايا سياسات الاستعمار التي ضربت بثقلها في سبيل تجهيل الشعب الجزائري، ورميه في فم الجهل ثم الإطباق عليه، فحينما صدع ((بعبارته الشعيرة "الفرنسية منفاي" لم يكن يقصد بهذه العبارة الذائعة الشائعة أن يُحاكم اللغة الفرنسية من حيث هي لغة مثل بقية اللغات البشرية، وإنما كان يشير إلى الطريق المسدود الذي وجد فيه الأدب المغاربي المكتوب باللغة الفرنسية بعامة والأدب الجزائري بخاصة، ولاسيما أنّ هذا المنفى انتقل إلى قرائه.)) (02 )

ندرك أنّ المعضلة عند حداد مزدوجة، فهي لا تتعلق باللغة فحسب من حيث هي لغة، بل أيضا بالقارئ الذي يشاركه محنة المنفى، وعجزه عن قراءة ما يُكتب، ويستذكر الحادثة التي وقعت له في إحدى مكتبات باريس حين تحدث إلى عامل جزائري اقتنى روايته وهو لا يعرف القراءة، ومع ذلك أصرّ على أن يحملها معه كون الكاتب جزائريا. الحادثة كما ذكرها حداد تحمل الكثير من الدلالات التي ندرك فيها بعمق مأساة القارئ كذلك، الذي قد نتخيل وضعه وهو يتأمل في كتاب دون أن يقدر على فك شفراته أو أسراره.

يعرّف حداد القارئ الحقيقي بأنه ذلك الذي لا يقرأ لكنه في المقابل هو الذي يصنع التاريخ الذي يكتب عنه الكاتب، أي أنّه أكبر من يفهم هذا التاريخ، في حين تقتصر وظيفة الكاتب في التعبير عن ذلك الفهم.

يقول حداد ((هؤلاء القراء الذين لا يقرؤوننا، الذين لا يستطيعون قراءتنا، في حين أنّهم هم الذين يعطون معنى لوجودنا، ومعنى لكتاباتنا، ويمثلون السبب والغاية للثورة الجزائرية، أعني بهم الفلاحين.)) ( 03 ) اعتراف مهم من حداد، يُنزل الكتّاب من أبراجهم العالية، ويقلّل من تعاليهم الذي قد يبلغ شأنا يكون للكاتب سلطة قمعية ومطلقة على القراء، بالنسبة له، هؤلاء الفلاحين هم القراء الحقيقيون، بل هم الذين يكتبون التاريخ ويعيشونه من الداخل ويساهمون في صناعته، غير أنّ المشكلة تكمن في أنّ الكاتب الجزائري حين يكتب عن صانعي التاريخ فهو يكتب لقرائه الحقيقيين الذين لن يقرأوا له، وربما لم يسمعوا به. تلك هي مأساة الكتاب الجزائريين، مأساة مالك حداد وكاتب ياسين ومولود فرعون ومولود معمري. ويختزل حداد هذه المأساة بقوله ((وفي كل مرة كنت أفكر في هذا القارئ المثالي، في هذا الفلاح المنشغل اليوم بمأمورية أخرى، في هذا الفلاح الذي لا يقرأ لي، والذي اكتب له...)) (04 ) لهذا، ينتاب الكاتب إحساس بالعزلة، وبفظاعة اليتم، وبالانقطاع عن واقع من المفروض أنّه يمثّل متلقيا لأفكاره وصوره وهواجسه.

حين يغيب القارئ، أو ييتّم الكاتب به، فذلك يعني عند حداد "استحالة الكتابة"، إذ تفتقد الكتابة وظيفتها كوسيط بين أفكار الكاتب وقارئه المثالي، وتستحيل إلى صمت من نوع آخر، يتلبّس الكاتب في عزلته الأبدية والمؤلمة، كما تتحول الكتابة بلغة الآخر إلى انتفاء لجوهر الكتابة ذاتها، وتغدو النصوص منافي باردة تضع الكاتب هدفا لوخز الحنين لا إلى الوطن بل إلى اللغة الأولى، اللغة الأم.

ما كتبه حداد هو كتابة المنافي الرمزية، تلك التي تستبدل الأوطان باللغات، وتغدو هذه اللغة / لغة الآخر المستعمِر بمثابة عزلة وجودية، فكتابة المنفى ((لا يسكنها الحنين فقط إلى طفولة المكان، بل إلى طفولة اللغة الأم أيضا، من منطلق أنّ طفولة اللغة تربة لها قداستها وسحرها العجائبي وتركيبها المنطقي الخاص، وتتمتع بحماية الذاكرة.)) (05 )

يضعنا حداد أمام رؤيتين يفسر بهما مأساة الكاتب الجزائري:

  1. الرؤية الأولى تتعلق بغياب القارئ.
  2. الرؤية الثانية تتعلق بالحنين إلى اللغة الأم.

تأملات في الازدواجية اللغوية: اللغة الفرنسية وأطياف موليير

إنّ المفارقة في موقف حداد من لغة المستعمِر، أنّه اجتهد لكي يفصل بين نظرته إلى اللغة الفرنسية باعتبارها منفاه الرمزي وما أحدث ذلك في حياته الأدبية من شروخ تسبب في عزلته، وفي تيتمه، وبين الاعتراف بالوجه التنويري في هذه اللغة بالذات، وكأنّ لسان حاله يقول: قد تكون الفرنسية منفاي، لكنها أيضا بوابتي إلى العالم، وإلى فكر الأنوار، وإلى الحضارة. هل نحن أمام نظرة متناقضة مع نفسها؟

في البداية، ينبغي أن نضع نظرة حداد للغة وإشكالياتها في سياقها التاريخي، حيث كانت لمقولات كالالتزام والنضال السياسي ووظائفية الكتابة والتزامها التاريخي والأخلاقي مقولات ذات دلالات متجذرة في تلك المرحلة، بل ومفتاحية لفهم الطبيعة التاريخية لأفكار جيل من الكتاب الذين نشأوا داخل فضاء ثقافي أخلّ بالتوازنات الثقافية واللغوية في وعي الكتاب الجزائريين، ولم يكن طبعا مالك حداد الوحيد الذي أحسّ بهذا الخلل، وإن كان ربما يمثل الصوت الأكثر وضوحا وجرأة في طرحها بكل أبعادها ولاسيما الوجودية.

لم يؤمن حداد بأنّ الكتابة هي شأن فني بحت، وأنّ وظيفة الكاتب تقتصر هنا فقط في إنتاج الجمال والفن، وتربية الأذواق على الجميل، بل كانت الكتابة لديه انخراطا في الحياة وفي التاريخ، هي أداة من أدوات النضال السياسي الذي يهدف إلى إحداث اليقظة الوطنية، والوقوف في وجه الإمبريالية الغاشمة، هي أيضا تمثيل كل تلك الطبقات الكادحة التي تعجز عن تمثيل نفسها، وانتشالها من براثن الصورة النمطية التي رسختها السرديات الأوروبية، وأرادت بها إقناع هذه الشعوب بتخلفها التاريخي، وببدائيتها، ووحشيتها...إلى غير ذلك من الصور التي تزخر بها الأدبيات الكولونيالية.

يعي حداد جيدا، أنّ الكاتب الجزائري الذي يكتب بلغة المستعمِر هو ضحية التاريخ، ضحية أقداره المشؤومة، وهو مؤمن بأنّ الكتابة باللغة الأم ستكون أصدق وأكثر قدرة على التعبير عن حقيقة أفكاره، وستكتشف الكتابة بهذه اللّغة ذاتها، من حيث هي جزء من معالم هوية المجتمع الجزائري. لكن، تظل هذه الأفكار مجرد أماني بالنسبة للكاتب، ما جعله ينتبه إلى ضرورة ممارسة نضاله بلغة المستعمِر، لأنّ لا بديل له في ذلك الظرف التاريخي. ((فقد صارت لغة المستعمِر بالنسبة للمستعمَر وسيلة تحرير فعالة. )) (06 ).

ثمّة وجه مشرق في هذه اللغة، يقول حداد، وهو تراثها الأدبي والفكري والحضاري، وفي هذا الجانب، يعترف بجميلها، ويتمثل هذا الجميل في "احترام ضيافتها" للكتاب الجزائريين، وهنا يتذكّر كلاما قاله الكاتب الجزائري الكبير "مصطفى كاتب" يلخّص الفكرة بحذق ((لقد قاومنا "بيجو" ولكن لم نقاوم موليير. )) (07 ) هذا ما يسميه حداد نفسه بـ"المفارقة التاريخية العجيبة"؛ فموليير بالنسبة للجزائريين ليس غريبا عنهم، وليست له أية علاقة بالقوة الاستعمارية، بل على العكس تماما، يمثل أدبه صرخة في وجه الاضطهاد الذي عانى منه شخصيا في حياته، ويقدّم درسا في التاريخ على أنّ أعتى أشكال الاضطهاد هو الذي يتأسس من الداخل ، فالعدو الحقيقي هو السيد والإقطاعي الذي عرف موليير من خلال مسرحياته كيف ينزع عنه قناعه، ذلك الاقطاعي الذي يمدّ يده للمحتلين في الجزائر (08)

ندرك أنّ حداد كان يسير بتؤدة نحو فكرة "الازدواجية اللغوية" كحل لا مفرّ منه، فحتى لو أنّ اللغة العربية بعد الاستقلال ستعود لتتبوأ موقعها الطبيعي، فإنّ هذا لن يشكّل خطرا على اللغة الفرنسية، لأنّ هذه الأخيرة أصبحت تشكّل جزءا من التراث الوطني. نفهم أنّ المستقبل سيكون – كما كان يحلم به حداد – هو للتعايش بين اللغات في الجزائر.

كان لزاما عليه أن ينتهي إلى هذه النتيجة حتى لا يسقط في تعصّب هو في حلّ منه، بل حتى يبدو منسجما مع قدره، طالما أنّ الاستقلال لن يكون بتحرير الجزائر من المستعمِر بل بتحريرها من الأمية، ومن التعصبات القومية التي من شأنها أن تئد مشروع مجتمع جزائري جديد يتسع لكل الألوان والأعراق واللغات.

يقول المرحوم " بختي بن عودة " (( ليست الفرنسية ( لغة الآخر الذي هو المستعمر) ذلك المجال اللساني والمادي الذي يترجم قوة المدفعية والنار التي تعطل نمو الطبيعة، بل هو مجموع القيم المنحدر من فلسفات وتواريخ أي من كتابات تفكر ذاتها لتستحضر صورة الغير في كتاب أو في لوحة أو في مفهوم، لنكن عقلانيين ونتعلّم التميّز والتأمّل، ولنذهب نحو تفادي شر القوم...)) (09)

ما تطرحه الازدواجية اللغوية هي نبذ فكرة محاكمة اللغات، وتمريغ اللغة في وحل الايديولوجيات، لأنّ لغة الآخر هي أيضا ذلك المكان المضياف الذي يستوعب المختلف، المكان الذي يكون للعقلانية حضورها الضروري، لتكون سدا منيعا في وجه التشرنقات العرقية واللغوية. إنّها أيضا طريقة لممارسة " الحوار " لا بمعنى تذويب الهوية، بل طريقة للإقبال على " الكوني " و " الإنساني " ونحو مزيد من الوعي بالذات، وهي كذلك تضمن " اخصابا" للوعي وللسان معا.

أليست اللغة الفرنسية هي الجسر الذي أوصل حداد وكاتب ياسين ومحمد ديب وآسيا جبار وغيرهم إلى العالمية؟ كتب حداد يقول بنوع من الاعتراف (( إنني في اللغة الفرنسية في منفى، غير أنّ بعض المنافي يمكن أن لا تكون غير مجدية، وإنني أشكر من كل قلبي هذه اللغة التي مكنتني من أن أخدم، أو أحاول أن أخدم بلدي الحبيب.))(10) لقد فهِم بعيدا عن أيّ تأسّي مفرط، بأنّ الفرنسية كانت له سندا في خدمة قضية بلده، وهذا ما يعكس الرؤية المتوازنة في فهمه لوظائفية اللغة في شرطيتها التاريخية حين تغدو وسيلة لا هدفا في ذاتها، وحينما يكتسب الكاتب وعيا بذاته وبأهدافه وبقضاياه.

من يكون الكاتب الجزائري؟ جدل التاريخ والجغرافيا

يمكن أن ننهي هذا المقال بسؤال طرحه حداد " من هو الكاتب الجزائري؟ " ما هي المعايير التي تكشف عن هوية الكاتب الجزائري؟ هو تساءل عن الكتاب الجزائريين وليس عن الكتاب في الجزائر، فبين العبارتين اختلافات دلالية واضحة. من جهة أخرى فإنّ السؤال الذي طرحه كان في واقع الأمر إعادة تمثّل لذات السؤال الذي طرحته مجلة فرنسية، قامت بعملية سبر لآراء كتاب يُفترض أنهم جزائريون، وبطبيعة الحال كان معظم المستجوبين من الكتاب الفرنسيين المقيمين في الجزائر بصفتهم كتابا جزائريين.

كان لابد أن ننتبه إلى أنّ الكاتب الجزائري كان يبحث عن انتشال نفسه من ركام التعريفات والتصورات حول من يكون الكاتب الجزائري، لما كان الكتاب الفرنسيون يدعون إلى هوية جزائرية لما يكتبونه، وكانت حركات مثل حركة الجزأرة دعت إلى تأسيس جمالية مغايرة للجمالية الميتروبوليتانية، وكانوا يعتبرون أنفسهم كتابا جزائريين. كما أنّ المنضويين في مدرسة الجزائر كانوا هم أيضا يحذوهم هذا الهدف لتأسيس حركة أدبية جزائرية تعلن عن ميلاد أدب جزائري جديد يكتبه كتاب فرنسيون ولدوا في الجزائر وعاشوا فيها أمثال " ألبير كامو ".

إذا كان هؤلاء يعتبرون أنفسهم كتابا جزائريين فمن يكون حداد وكاتب ياسين ومحمد ديب وفرعون؟

هل المسألة تختزل في جدل الانتماء إلى حساسية في الكتابة أم إلى هوية قومية وسياسية وقيمية وتاريخية؟ هنا يقول حداد (( إنّ عبارة " كاتب جزائري " تحمل في نهاية المطاف غموضا، من حيث أننا لا نتفق على مضمونها، ولا حتى على كلمة " جزائري " أو على صفة جزائري. إنّ الكاتب هو نتاج التاريخ أكثر منه نتاج الجغرافيا، فالجغرافيا احتمال أما التاريخ فلا. إنني أرى أن كل هذا الغموض، وهذه المعاناة في البحث عن تعريف نشأت من مأساة اللغة، وهذه المأساة تأتي من التعبير الفرنسي لكتاباتنا.)) (11 )

الحل عند حداد هو تحديد مفهوم " الجزائري " كمفهوم تاريخي لا جغرافي طالما أن الجغرافيا ليست أكثر من احتمال، وأنّ العيش في مكان لا يعني بالضرورة الانتماء إليه، إن لم يكن لوجوده امتدادا في التاريخ.

تُطرح هنا فكرة الأصل بمعناها التاريخي، أي ذلك الجذر الذي يمكن الرجوع إليه للقاء بالأجداد وبالتراث والعادات والتقاليد والمنظومات التصورية والذهنية والرمزية التي أنتجتها الجماعة منذ قرون. ولذا يرفض حداد اعتبار الجزائر أمّة بلا تاريخ.

إحالات المقال

  1. ) – بيل اشكروفت وآخرون، الرد بالكتابة النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة، تر: شهرت العالم، المنظمة العربية للترجمة لبنان، ط01، 2006، ص 25.
  2. أحمد يوسف، علامات فارقة في الفلسفة واللغة والأدب، منشورات الاختلاف الجزائر، منشورات ضفاف لبنان، دار الامان الرباط، ط01، 2013، ص 172.
  3. مالك حداد، الأصفار تدور في فراغ، تر: أحمد منور، دار الألمعية الجزائر، ط01، 2012، ص11.
  4. المصدر نفسه، ص 13.
  5. أحمد يوسف، علامات فارقة. مرجع سابق، ص 173.
  6. مالك حداد، الأصفار تدور في فراغ، مصدر سابق، ص 25
  7. المصدر نفسه، ص 29.
  8. م، ن، ص 29.
  9. بختي بن عودة، ظاهرة الكتابة في النقد الجديد، مقاربة تأويلية الخطيبي نموذجا، دار الأديب للنشر والتوزيع الجزائر، دط، دت، ص 119
  10. مالك حداد، الأصفار تدور في فراغ، ص 34.
  11. م، ن، ص 52.


مواضيع ذات صلة

التعليقات

أترك تعليقا

شكرا لك تمت إضافة تعليقك بنجاح .
تعليق