الرئيسية سياسة كل الأحداث

معابر: بقلم حميد عبد القادر

الربيع العربي وخدع ما بعد الحداثة


20 ماي 2014 | 14:16:48
shadow


الكاتب :


استخلص الباحث والأكاديمي غريغوار ميرشو، في دراسة نشرها في صحيفة "لوموند ديبوماتيك" أن الثورات العربية الأخيرة، أو ما أصبح يصطلح عليه بالربيع العربي، تندرج ضمن محاولات النظام العالمي الاستهلاكي الجديد تقويض والحد من عمل الدولة الرعائية في العالم العربي. واعتبر أن هذا النظام "لا يريد للديمقراطيّة المفخّخة تمكين الجماهير من التحكّم في مصيرها، وإنّما هي أداته في اقتحام الحدود وإعطاب الدولة القوميّة المركزيّة الصغيرة، حتّى يتسنى لهذا النظام قولبة البشر وإزالة العوائق الإنسانية والأخلاقية.أما عن الهدف من هذه العملية، فهو تحقيق تسليع الشعوب المستهدفة وما لديها من رساميل معنوية وماديّة واستباحتها، بغية إعادة التقسيم والهيكلة لدويلات على قواعد مذهبيّة أو دينيّة أو إثنيّة"، حيث يصبح الجميع سواسية مثل أسنان المشط الأمريكي الذي يصفه ميرشو بالبلاستيكي. على أثر ذلك "يتمّ التخفيف من عبء الهويّة والضمير والاختيارات الأخلاقية المركّبة". ويتمّ طرح سنغافورة مثلاً أعلى يُحتذى به، وهي بلدٌ معقّم من التاريخ والذاكرة، إذ أنّها شوارع إسفلتية عرضيّة وأبراج إسمنتية تشكّل مجموعة هائلة من المصانع، والمتاجر والملاهي. هذا ما يُراد (ولكن على شكلٍ أسوأ) لبلدانٍ كمصر ولبنان والأردن وسوريا وغيرها من البلدان العربية وغير العربيّة، من خلال تجزئتها إلى كيانات مصَغرة ممصوصة القوى على شكل جزرٍ مقطوعة الأوصال، منهوبة متاحفها وكنوزها الأثريّة وثرواتها الطبيعية كما حصل في العراق وليبيا ويحصل اليوم في سورية.

وأضاف ميرشو، استنادا إلى استنتاجات المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري، بالأخص في كتابه الشهير "الحداثة وما بعد الحداثة.. حوارات القرن الجديد"، أنه بهذا المعنى يمكن القول بأنّ النظام الجديد هو إمبريالية ما بعد حداثية، حيث سيجد الإنسان نفسه في عالمٍ بلا تاريخ وبلا ذاكرة (كما يحصل في العراق وفلسطين وفي سورية)، تتفكّك فيه علاقة الدال بالمدلول، وينزلق فيه الإنسان من الخصوصيّة الإنسانيّة التاريخية إلى عالم الطبيعة والمادّة والجنس. تحيط به إمبريالية ناعمة في دورانها مطابقة لدوران حريّة السوق والاقتصاد، مدمّرة في مفاعيلها، تأبى أن تسمّي نفسها إمبريالية... وإنّما النظام الدولي الجديد.

وتكمن المخاطر في معظم النظريّات ما بعد الحداثية، حسب صاحب المقال، حينما تفضي باهتمامها وبمزيد من الإصرار لا إلى هدم نمط أشكال السلطة فقط، وإنما إلى تقليص مهمّات الدولة (من زاوية النظرية الاشتراكية)، التي يخيّل لها أنها هاربة منها لا تلبث أن تسقط في غفلة في أحضان وقبضة السلطة الجديدة المتمثلة اليوم في الليبراليين الجدد على اختلاف ألوان جلدتهم. وجاء في المقال: "من هذا المنظور، يمكن لحملة التأكيدات التهليليّة الاحتفالية لفرسان ما بعد الحداثة النخبوية وظلالهم في عالم الجنوب، وبالتحديد في المشرق والمغرب العربيين، أن تبدو في قسمٍ منها ساذجة في تفاؤليّتها، إن لم أقلّ مضلّلة إلى حدٍّ خطير في دعواها".

 والدليل الذي يقدمه ميرشو بشأن اعتداءات هذه الظاهرة الكونية، (والتي جعلته يستشهد بكتابات توني نيغري وميكاييل هاردت المعادية للعولمة المتوحشة)، يكمن في كون أن "إيديولوجيّة إطلاق العنان لحرية السوق العالمية ظلّت باستمرار الخطاب المعادي لتدخّلات الدولة الرعائية للمجتمع، ما يعني أن ما بعد الحداثة أضحت مرادفا لإزالة واضحة للدولة التي تكفل الحماية الاجتماعية، بعد أن أصبح ينظر إليها كمرادف للدولة القهرية والتسلطية".

ويعتقد ميرشو أنه مع انطلاق حريّة السوق العالمية في الثمانينيات (مع الحقبة الريغانية -التاتشرية) وبلوغ ذروة انتشارها في التسعينيات من القرن الفائت، على يد الولايات المتحدة ثمّ حلفائها، أصبحت حرية السوق المعولمة تميل إلى تفكيك حدود الدول القوميّة، خاصّة في بلدان الجنوب باعتبارها باتت تبدو، بنظر السوق العالمية، عقبات للأداء يقتضي خرق سياداتها، وإعادة هيكلتها أو تعطيل ما تبقّى لها من حدود دنيا حمائيّة رسمية، تتمّ ممارستها فقط مع الشعوب، أو استباحتها وتقسيمها على خلفيّات دينيّة ومذهبية أو إثنية وجهويّة وقبلية (الاتحاد السوفيتي، يوغوسلافيا، الصومال)... إلخ.

وخلص إلى أن إيديولوجيّة الاختلاف العالميّة المتجذّرة من قبل السوق العالميّة لا تحرص جديّاً على الحركة الحرّة والمساواة والتكافؤ بين الأمم والشعوب، بل على العكس تقوم على فرض تراتبيات محكومة بالتمييز القيمي حسب الأصول الثقافية الجوهرانية كي يسهل احتواء ومحاربة تنظيم العمال أو تكسير التضامن والتعاضد والتواصل ما بين الأفراد أو الجماعات أو الشعوب، من أجل تحقيق المزيد من الأرباح لأصحاب الشركات متعددة الجنسيات عابرة القارات والقوميات.

 



مواضيع ذات صلة

التعليقات

أترك تعليقا

شكرا لك تمت إضافة تعليقك بنجاح .
تعليق