الرئيسية ثقافة أفكار

خوان كارلوس وحسن التراجع كأثر تاريخي

بقلم حسن العسبي


11 جوان 2014 | 12:59
shadow


الكاتب : كاتب صحفي من المغرب


 

كانت فتاتان تسبحان، في بحر ما من بحور إسبانيا، حين بدأت واحدة منهما تغرق، وصديقتها تطلب النجدة، فوصل النداء إلى أذن رجل في الخمسين سنة من عمره، كان غير بعيد في باخرته الصغيرة، فقفز في الماء وسبح وخاطر، وأنقذ الشابة تلك من الغرق. كانت المفاجأة كبيرة، أن المنقذ ذاك هو الملك خوان كارلوس الثاني. كانت أسطورة الرجل الشعبية قد ولدت، هو الذي جاء لينقذ بلد الوليد كله من زمن الديكتاتورية العسكرية للجنرال فرانكو، ومن الانغلاق عن الفضاء الديمقراطي، المفضي إلزاما إلى الانتماء للفضاء الأوروبي. ولأن لإسبانيا الكثير من أساطيرها، فإن ابنها خوان، الذي مهنته "ملك"، قد صنع أسطورة غير مسبوقة في شبه الجزيرة الإيبيرية، لأنه أول ملك إسباني منح لمدريد ملمحا إنسانيا في ممارسة السياسة غير مسبوق. فتلخصت في سيرته وفي شخصه قصة التحول في إسبانيا.

هل ستلد البلاد تلك، بلاد سرفانتس، أسطورة مماثلة؟. جديا، صعب.

لأن الرجل قد امتلك ذكاء (حين جاء في اللحظة التاريخية المناسبة) أن يركب المجد بما يليق بالرجال الشجعان. بل إنه حين كان الرصاص يلعلع في فضاء الكورتيس الإسباني يوم 23 فبراير 1981، في محاولة للانقلاب على التحول الديمقراطي، الذي نسج هو خيوطه بحنكة عالية منذ 1975، خرج مثلما يخرج الأنبياء في لحظات الامتحان، ليقول لزعيم الانقلابيين "أنطونيو تيخيرو"، أنه لا يريد لزملاء دراسته بالكلية العسكرية بمدريد أن يقدموا له تلك الخدمة الفاسدة، ولا أن يدعوا منحه تلك "الهدية المسمومة للاستبداد" وأمرهم أن يعودوا إلى حيث يجب أن يكونوا كبارا، أي إلى ثكناتهم العسكرية عنوانا للشرف في الدفاع بالروح والجسد عن حرمة البلاد. وانتصر خطاب العقل ذاك، على صوت الرصاص الذي احتجز برلمانيي إسبانيا ليومين كاملين. حينها سبح خوان كارلوس في المياه المصطخبة للسياسة بمدريد وأنقذ إسبانيا من الغرق مجددا في الديكتاتورية العسكرية. فولد البطل السياسي الأسطورة.

جديا، حين يتأمل المرء سيرة رجل مثل الملك خوان كارلوس، يكاد يراها أشبه بقصيدة أندلسية رائقة، ويكاد الخاطر يسائل بعضه، ما الذي كان سيقوله شاعر مثل فديريكو غارسيا لوركا، ذلك الغرناطي الطيب النبيل، الذي حصدته رصاصات جنود فرانكو باكرا، حول شخص مثل خوان كارلوس الملك؟. هل كان سيصيح عاليا: "عاش الملك"، أم إنه كان سيردد ذات قصيدته الخالدة حول الوردة:

"لم تكن الوردة تبحث عن الفجر

خالدة أبدا على غصنها،

كانت تبحث عن شيء آخر.

لم تكن الوردة تبحث عن رايات

ولا عن ظلال.

كانت تبحث عن شيء آخر.

لم تكن تبحث الوردة عن نفسها،

متصلبة في الخواء، في عنان السماء،

كانت تبحث عن شيء آخر".

أليس ذلك الشيء الآخر، هو المعنى الذي يصنعه الرجال في اللحظات الفارقة لامتحانات التاريخ، الذي له شذى العطر؟ أليس ذلك ما صنعه قدر رجل مهنته "ملك" اسمه خوان كارلوس الثاني؟. أليس هو الرجل الذي كان يبكي أمام وردة، في لحظات إنسانيته الباذخة؟ أليس هو الذي رأيناه يبكي، أمام الموت، حين جاء يعزي في رحيل ملك المغرب، جاره وصديقه، الحسن الثاني، وجعلنا دمعه، نعيد اكتشاف الحقيقة من جوانب ظلت محتجبة، تماما مثلما يظل الجزء الخبيء للقمر سادرا في سره الأبدي؟. أليس خوان هو الذي عرف كيف يصالح الكثيرين مع سؤال الوطن هناك في مدريد؟ أليس هو الذي نجح في أن يعيد للأندلس كل يعاسيبها الغائبة، تلك التي ظلت تصنع عسل المعاني النبيلة في المنافي؟. أليس هو من جلس إلى زعيم الشيوعيين الإسبان وزعيم النقابيين الإسبان، وقال لهم: أنا في حاجة لإعادة ترتيب معادلة سياسية، تكون فيها سماء البلاد بلون الحياة، لا لون الرماد؟.

خوان، النبيل، ها هو يترجل من كرسي الملك، كي يجلس على كرسي المجد ذاك الذي يصنعه حسن التراجع كأثر تاريخي. أليست السياسة هنا، معه، قصيدة باذخة؟ أليست عنوانا للأخلاق السامية، نعم ثمة مجال لممارسة السياسة بأخلاق عالية. أليس ذلك ما فعله مع شاب آخر لإسبانيا، اسمه "فيليبي غونزاليس"، ذلك الشاب الذي قاد إسبانيا بسلاسة صوب الحداثة وصوب العالم، في واحدة من أطول فترات حكم للاشتراكيين بإسبانيا، ولبقاء وزير أول بفضل تجديد الثقة فيه انتخابيا، 13 سنة كاملة في الحكم. والذي غادر دنيا السياسة وهو في 50 من عمره.

أيها الأندلس، ما أبهاك، هناك، بصفصافك العالي. ما أجمل درس أبنائك، من لوركا في قصيدته الخالدة، حتى خوان كارلوس الملك في قصيدته الأبقى.



مواضيع ذات صلة

التعليقات

أترك تعليقا

شكرا لك تمت إضافة تعليقك بنجاح .
تعليق