الرئيسية ثقافة أفكار

معابر: بقلم حميد عبد القادر

النقد كحالة طبيعية


11 جوان 2014 | 13:02
shadow


الكاتب : روائي


 أصبح الروائي يصول ويجول في فضاء الذاكرة، كما المؤرخ تماما. مع فرق واحد، وهو أن المؤرخ يبحث عن الحقيقة، ويروم الموضوعية، لتحويل الذاكرة إلى تاريخ. بينما يؤجج الروائي جوانب المأساة، ويبحث عن شخصيات تاريخية قاست وعانت حتى أصبحت شخصيات روائية. ويسعى لنصرة الخير، دون أن يعلن عن ذلك، حيث يضع الشرّ في موضعه، ويكشف عنه. فالروائي في النهاية كائن أخلاقي، دون الاعتماد على الموعظة، وتكمن أخلاقه في الكشف عن لحظات الزيف في أحوال البشر.

وما أكثـر الشخصيات الهامشية في تاريخنا الحديث. فقد وجدت، وأنا أنتقل بين الرواية والتاريخ، سهولة كبيرة في نقل شخصيات واقعية إلى عالم الإبداع والمتخيّل. فالواقع الذي يسمى واقع ما بعد الاستعمار عندنا، يعدّ واقعا مأساويا، ولنقل روائيا بامتياز، دون أن نحسّ أننا ننأى عن الحقيقة.

وإذا كانت الرواية تحاكي عالم الهامش، وتقول ما لا يقوله المؤرخ الرسمي، فإن واقع ما بعد الاستعمار خلق مأساة روائية، سهلة الانتقال إلى الفضاء الروائي.

شخصيات الرواية تأتي من الهامش، والهامش هو الذي يعطي التراجيديا حبكتها. وكم من شخصيات تاريخية قاست وعانت من واقع ما بعد الاستعمار، فكان انتقالها لفضاء الرواية مُمكنا، بل وسهلا. ونلحظ أننا بلغنا وعيا متقدما ونحن ننقل تراجيديا ما بعد الاستعمار إلى عالم الرواية. وكان الغرض من ذلك تقديم رؤية مغايرة لتلك التي نجدها في التاريخ الرسمي الذي يتجنب الأسئلة الحرجة، ويرفض الغوص في قضايا ''المسكوت عنه''، بحجة إيجاد التجانس، والخوف من المساس بالروح الوطنية، وكأني بالروائي يمس بهذه الوطنية ويلحق بها الأذى بمجرد أنه اقترب من أمكنة الظل، وغاص في متاهات الذاكرة، وفضح حماقات الفاعلين وتجاوزاتهم. وهذا شيء لا يمكن تصوره، من منطلق عدم ارتباط الوطنية بالأشخاص، ومن منطلق مسؤولية الكاتب، بالأخص إذا كان كاتبا واعيا، يرفض مسايرة طروحات أطراف مشبوهة تريد استعماله واستغلاله، لإبراز الجوانب السلبية في كثير من المبادئ المؤسسة. وقد كثر الحديث في السنوات الأخيرة مثلا، أثناء تناول شخصية العقيد عميروش، عن مسألة "لابلويت"، وقضية اغتيال المثقفين، وذلك على حساب دوره الوطني والنضالي. وكأن الصورة التي يريد البعض رسمها لهذا القائد الكبير، تتوقف عند ما يعرف بدوره في قضية "الزرق". ويتضح من هنا أن دور الروائي في البلدان التي ما تزال تتعرض للهجمات الاستعمارية على مستوى الذاكرة والمخيال، هو محاولة التمسك بخيط النقد، لكن في نفس الوقت التشبث بالقيم المؤسسة للثقافة الجماعية، والحيلولة دون التشكيك فيها والنيل من أهميتها. وبإمكان هذا الروائي أن يساهم في تحقيق هذا البُعد، حتى وهو واقف في الجانب الهامشي، أي دون الانخراط في دواليب السلطة. وهذا ما أسميه بالوعي في زمن التكالب الخارجي. لهذا من الضروري فعلا، نزع الخوف عن النقد، واعتباره حالة عاجية وطبيعية.

إذا كان المؤرخ (الرسمي لأن الأمر يتعلق به هنا) يتعامل مع الفاعلين كأنهم أبطال، فإن الروائي يفضل نزع صفة البطولة عنهم، ويفضل التعامل معهم كبشر، وهو ما يمنحه صفة الصدق. ولا أبالغ إن قلت، وفق هذه الحالة، إن الروائي (المبدع) يحوز على صفة المؤرخ، مقارنة بالمؤرخ (الرسمي) الذي هو بصدد خلق مرويات بطولية وأساطير، وليس تاريخا. وعليه، يسهل علينا إطلاق تسمية الروائي (على سبيل السخرية) على المؤرخ الرسمي. وبالعودة إلى بول ريكور في كتابه ''الذات عينها كآخر''، نجد مسألة في غاية الأهمية، هي ''الفضولية''. وهذه الفضولية تحتل مكانة بارزة عند الروائي منه عند المؤرخ الرسمي الذي يميل إلى البقاء على ما هو موجود على السطح. لذلك، كان الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز ذكيا، لما كتب في روايته ''مائة عام من العزلة'' ما يلي: ''للأشياء حياتها الخاصة بها. وما القضية سوى إيقاظ أرواحها".

 



مواضيع ذات صلة

التعليقات

أترك تعليقا

شكرا لك تمت إضافة تعليقك بنجاح .
تعليق