الرئيسية ثقافة أفكار

معابر: بقلم حميد عبد القادر

تحية للراحل فانسون غرو


18 جوان 2014 | 12:13
shadow


الكاتب : stcloudhamid@yahoo.fr


لا تعثر، لسوء طالعك، وأنت تحل بالجزائر العاصمة، وتنزل من أعالي شارع ديدوش مراد (ميشلي سابقا)، على مكتبة عريقة اسمها "مكتبة الفنون الجميلة"، التي يعود تاريخ تأسيسها إلى مطلع خمسينات القرن العشرين، فقد أوصدت أبوابها نهائيا، كما أغلقت تسع مكتبات خلال السنوات الأخيرة بين شارعي ديدوش مراد والعربي بن مهيدي بوسط البلد، وتحولت إلى محلات لبيع الملابس، أو لمطاعم "الأكل السريع"، أو لوكالات بنكية.

اختفت مكتبة "الفنون الجميلة" من المشهد الثقافي، واندثر معها تاريخ عريق، في الوقت الذي تبذل فيه الحكومة الجزائرية مجهودا كبيرا لدعم الكتاب الأدبي والفني عبر استحداث صندوق دعم الكتاب، والمركز الوطني للكتاب، وانتشار حمى القراءة، مقارنة بالسنوات الماضية.

كانت مكتبة "الفنون الجميلة" ملتقى كتاب كبار أمثال صاحب جائزة نوبل للآداب ألبير كامي، وإيمانويل روبلس، والطاهر جاووت، وجان سيناك، ومولود معمري، ورشيد ميموني، ورشيد بوجدرة. حتى أن ألبير كامي لم يكن يجلس، وهو في الجزائر العاصمة، سوى في مكتبتين اثنتين، هما مكتبة "الثروات الحقيقية" التي أنشأها إدموند شارلو، ومكتبة "الفنون الجميلة" التي أنشاها فانسون غرو، في مطلع الخمسينات. وكان فانسون غرو نفسه يتردد على مكتبة شارلو، وهو في ريعان الشباب، ويتابع ندوات ألبير كامي، وإيمانويل روبلس، اللذين كانا يعبران آنذاك عن الضمير الأوروبي الرافض للنظام الاستعماري القائم على العنصرية.

وكان غرو شخصية مميزة، ومثيرة، حيث كان مقربا من الأوساط اليسارية، ويقال إنه ساند الفدائيين الجزائريين خلال حرب التحرير، وهو الأمر الذي جعله يختار الجزائر، والجنسية الجزائرية، عقب الاستقلال، ولا يغادر البلد مع موجات الرحيل التي شهدت عودة مليون أوروبي إلى فرنسا.

كما يعد غرو شخصية محببة لدى القراء وعموم المثقفين الجزائريين، وهو من المكتبيين القلائل في وسط البلد الذين خصصوا مقاعد جانبية للمطالعة، بدون شراء الكتاب. كما ألقى على عاتقه رعاية عدد من الكتاب الجزائريين، عبر تنظيم ندوات أدبية وفكرية في الطابق العلوي من مكتبته الصغيرة الواقعة في وسط البلد، في حي أوروبي ذات طراز عمراني هوسماني.

احتفظت المكتبة بمكانتها، كفضاء يرعى الآداب والفنون، بفضل جهود غرو، الذي وجد بعد الاستقلال نخبة مثقفة فرانكفونية، كانت تشكل آنذاك غالبية مطلقة بين النخبة المثقفة الجزائرية. وكان يتردد على مكتبته، رغم رفضه مسايرة الموضة الفكرية اليسارية التي انتشرت في الجزائر من الستينات إلى نهاية الثمانيات، مثلما هو الحال مع مكتبة "الاجتهاد" بشارع حماني (شاراس سابقا)، حيث كان يجد القارئ مؤلفات منشورات "التقدم" السوفيتية باللغتين العربية والفرنسية، كتاب ومثقفين من مختلف التوجهات، وبالضبط من المتعاونين التقنيين الذين كانوا يساهمون في تطوير التنمية الجديدة للجزائر المستقلة، ومن بعض الأوروبيين الذين فضلوا البقاء في الجزائر، وعدم مغادرتها، إضافة إلى التروتسكيين، والماويين، وبعض الغيفاريين. وقد ظل فانسون غرو محتفظا بتصور إنساني للثقافة، رافضا للانغلاق الأيديولوجي.

ومن أهم مميزات فانسون غرو، طيبته، وثقافته الواسعة، وعشقه للأدب، وتمكنه من اللغتين الفرنسية والإسبانية. وقد كان بمثابة "خواجة جزائري"، يملك تلك القدرة الفائقة على تقديم "صوت مغاير للجرس"، غير الصوت القومي الذي انتهجه النظام الجزائري منذ الاستقلال، والذي كان يدعمه الحزب الحاكم، ونفر من المثقفين المعربين العائدين من منح دراسية إلى سوريا والعراق ومصر، حيث تعلموا أبجديات القومية العربية.

ظل فانسون غرو نوتة مغايرة، ومختلفة في فضاء ثقافي وطني ما انفك يسير في جزء منه نحو العروبة والتعريب، ثم الأسلمة، إلى أن اغتيل من طرف مسلحين متطرفين، بتهمة أنه يهودي بقي مندسا بين الجزائريين. وقد تم الترويج لهذا الكلام، بالرغم من أن لا أحد أكد فعلا الأصول اليهودية لغرو، فلم يكن يعرف بين أوساط المثقفين سوى بعشقه للكتب، وحديثه المستمر عن الأدب والفنون التشكيلية.



مواضيع ذات صلة

التعليقات

  1. ASSIA   24 جوان 2014

    كالعادة تحسن اختيار الحديث عن الثقافة و الكتاب تجعل الكتاب يحكي و تأخذ القارىء الى عالم أجمل منه لا يوجد و تظهر حقيقة ان الثقافة ينعها ايمان اشخاص بها مثل فانسون غزو جمالية القراءة و المكتبات العريقة التي جلس فيها عمالقة الفكر و الادب انك تقول لنا بأن الكتاب مدخل اللى النبل و الارستقراطية و من منا لا يريد ان يكون نبيلا و ارستقراطيا و

أترك تعليقا

شكرا لك تمت إضافة تعليقك بنجاح .
تعليق